- كان القاضي/ أحمد العنسي مفتياً لأهل ذمار حتى منتصف القرن الماضي، وقيل أن عدداً من الأولاد جاؤوا إليه من قرية يطلبون منه تقسيم التركة التي تركها لهم والدهم المتوفى..وقد ذهب إلى القرية وحصر التركة، ثم تبين له أن على والدهم ديناً.. فقال لهم: أول شيء نخصص جزءاً من التركة لقضاء دين والدكم والباقي أقسمه بينكم بالسوية، قالوا: لا .. هذا الكلام ما يصلح.. قال لهم: ياعيالي هذا هو شرع الله، فالله تعالى قال في سورة النساء « من بعد وصية توصون بها أو دين»،قالوا هذا كلام غير مقنع، قال: طيب يا عيالي يقول علي ولد زايد «الدين قبل الوراثة»، قالوا: إذا كان ولد زايد قد قال هذا الكلام فلا بأس وأقسم ياقاضي رضينا بقسمتك.- فالأولاد لم يرفضوا شرع الله، ولكنهم لم يفهموا الآية فلجأ القاضي إلى مقولة الحكيم علي ولد زايد وهو صنو الحميد ابن منصور، وكلاهما مشهوران عند العامة، ومقولة علي ولد زياد تؤدي نفس المعنى المذكور في سورة «النساء» وبهذه ا لفطنة سهل القاضي على نفسه وعلى أولئك الأولاد معرفة الحق والقبول به وتم قضاء الدين للدائنين ورضي الأولاد بما تبقى لهم بعد تحرير روح أبيهم من الدين.- ليتنا نحن الكتاب وكذلك المرشدون ومنفذو القانون نلجأ الى خيارات مناسبة تساعد الناس على فهم ما يدور في المجتمع والالتزام بالقانون وتعاليم الدين دون مشقة..وهذه الخيارات ممكنة علىأيةحال والثقافة الشعبية في اليمن تساعدنا لأنها تختزن موروثاً هائلاً.- بعض الكتاب يتعالون على الجمهور بأنماط من الخطاب هي أقرب إلى الكيمياء، وعندهم اعتقاد خاطئ وهو أنه كلما كنت غامضاً وتستخدم كلمات ومصطلحات عسيرة على الفهم عززت وساوس الناس بأنك مثقف داهية وخطير، وإذا سردت أكثر الأسماء فذلك يعني أنك ( راوية ).- بعض الأوقات أكره نفسي على الأنصات لخطيب أو واعظ وهو يحدث العامة بلغة أو لهجة قريش قبل أن ينقل لك حديثاً مكوناً من عبارتين « يدوخك في ذكر الأسماء.. عن فلان وعن فلان.. وذكره علان بسند صحيح، وقال فلان أنه حسن.. وذكره أحمد في مسنده ورواه ابن المسيب وذكر الطبري..و..و.. فما دخل العامة في هذه التحقيقات المعقدة..وكل منفذي القانون يقولون خالفت القانون..هذا غير قانوني.. وبمثل هذه العبارات العمومية يتعاملون مع الناس، ويخرج الناس من عندهم ساخطين..بينما لدى الناس أو العامة تقبل لكل ماهو قانوني.. لكن لا أحد يوعيهم بالقانون، حتى أن بعض منفذي القانون هم أول من يخالفونه لأنهم لا يقرؤون القوانين ولايقرؤون سطراً من كتب الثقافة الشعبية أيضاً.- مرة قلت في إحدى الندوات كلاماً قوياً..وبعد انتهاء الندوة جرني القاضي حمود الهتار جانباً ينصحني.. قال: لماذا هذه الحدة؟ قلت له هل كذبت؟ قال: لا.. لكن كان بإمكانك أن تعبر عن المطلوب بكلمات أخرى تؤدي نفس الغرض.. وسوف يكون تأثيرها في المسؤولين أبلغ من هذه الرصاص الصديقة أو المعادية.
عودة إلى ثقافة الشعب
أخبار متعلقة