مها فهد الحجيلان :تعيش كثير من السعوديات تضاربا في المبادئ أو تقدير المواقف أو في الاعتبارات الأخلاقية والسلوكية أو على أقل تقدير يوجد لديهن بوصفهن جزءاً من المجتمع تناقض في السلوك والتفكير إذا ما نظر إليه من خارج ظروف المرأة الشخصية والمهنية.الحياة الاجتماعية السعودية ليست فقط محكومة بالدين كما يعتقد الغرباء أو بعض المثاليين أو الحالمين من مجتمعنا، بل هي مرتبطة بشكل قوي ولصيق بالعادات والتقاليد والتراث القديم. ويمكن القول إنه في كثير بل معظم الحالات تعتبر العادات الثقافية أكثر قوة وحدة وإلزاما من التعاليم الدينية خصوصا إن كان بينهما تعارض. فعلى سبيل المثال يسمح الدين الإسلامي بالحجاب الشرعي دون غطاء الوجه بينما تتمسك كثير من العائلات المحافظة أو القبلية بغطاء الوجه وكأنه أمر محتوم لا يمكن الجدل حوله ومن ترفضه أو تتجرأ على مناقشته قد تعاقب بأساليب مختلفة تتنوع من العقاب النفسي إلى الجسدي وربما القانوني.وأيضا يسمح الإسلام للشاب أن ينظر إلى الفتاة قبل الزواج بها، ولكن بعض العائلات السعودية ترفض هذه الممارسة بشكل قطعي والبعض لا يعرف هويّة زوجته إلا ليلة الزفاف بعد أن وقع الفأس بالرأس؛ والبعض الآخر لن يعرف وجهها أبدا لأن العادات القبلية تفرض على الزوجة عدم رفع "البرقع" أبدا بحيث تعيش المرأة وتموت ويبقى وجهها لغزا من ألغاز الدنيا السبعة بل غموضا عجيبا لن يعرف طريقا لحله أي محقق مهما كان حاذقا!ومن صور التعلق بالتقاليد على حساب الدين الإسلامي رفع المهور خصوصا على "الغريب" ممن ينتمي إلى عائلة أو قبيلة أو منطقة مختلفة؛ وكأن هذا الغريب الذي أتى من بلاد العجائب سيأخذ "الحسناء" حيث تعيش مخلوقات عجيبة على سطح المريخ حيث لا تعرف هذه المرأة كلامهم ولا دينهم وليس بينها وبينهم أي شبه! وهناك كذلك المناطقية والعصبية القبلية وغير القبلية وغير ذلك من الممارسات الثقافية المتأصلة في نفوس الكثيرين؛ وهي بكاملها تعارض الإسلام صراحة؛ فلم يعد في واقع الأمر أكرم الناس أتقاهم بل أعلاهم نسبا وحسبا وربما مالا وجاهاً. في الحقيقة لايمكن حصر التناقض في المجتمع بمقالة واحدة؛ فهذا موضوع عريض وشائك يحتاج إلى كتاب حتى يتم التعامل مع هذه التناقضات المادية والمعنوية بشكل موضوعي وشامل. ولكن لعلنا هنا نناقش موضوع غطاء الوجه وما يلاحظه البعض على ممارسات بعض السعوديات من عدم التمسك الكامل به مع أن عوائلهن تشدد على التمسك به وعدم تركه مهما تغير الظرف.أتذكر حينما كنت في الولايات المتحدة كانت تأتي سيدة سعودية متزوجة لتحضر مادة في إحدى الكليات في الجامعة وكنت غالبا ما أقابلها وهي في طريقها للمحاضرة ثم نسير معا حتى ندخل القاعة معاً. كانت سيدة على خلق ودين واضح، ولكن كان يكسوها حزن و كآبة لا تخطئهما العين؛ فقد سرق الألم في داخلها الحرارة من وجهها فظهرت ذابلة غير مقبلة على الحياة بل يتخيل لك وأنت تراقبها في الممر وهي تمشي وكأنها تجر قدميها جرا. كانت السيدة السعودية تأتي إلى الكلية بعباءة كتف كاملة من غطاء رأس ونقاب للوجه بل وحتى جوارب يدين وقدمين واستمرت على هذا الحال لمدة أسبوع تقريبا ثم لاحظتها ترفع غطاء وجهها حالما تدخل مبنى الكلية، بل وأخفت غطاء اليدين والقدمين ولكنها كانت تعيدهما حينما يأتي زوجها ليأخذها بسيارته. بالنسبة لي تعتبر مسألة الحجاب من عدمه خصوصا في تلك الظروف أمرا شخصيا لا يعنيني بشيء، ولكن ما لمسته من هذه السيدة أنه بعد كشف وجهها أصبحت أكثر حضورا في الفصل وتجرّأت على مناقشة كثير من الموضوعات، وبدأنا نلاحظ نشاطها أكثر من ذي قبل. بل لم يعد يخاف من مشاركتها ومساعدتها أحد من الطلاب والطالبات فقامت بتحضير مشروع صغير مع بعضهم وقدموه باقتدار بعد أسبوعين. وأنا هنا لا أريد أن أحاكم غطاء الوجه بوصفه عادة ثقافية أو ممارسة دينية غير مرتبط بدلالات نفسية بذاته، ولكن ما يصبغ عليه الناس وما تشعر به المرأة هو شيء اجتماعي نفسي متغير من ظرف إلى آخر ومن ثقافة إلى أخرى. ولا أعتقد أن هذه السيدة السعودية لديها مشكلة في تغطية وجهها وهي في بلدها السعودية، بل على العكس أعتقد أنها كانت نشطة دينياً وتحضر كثيراً من المحاضرات الدينية حول ضرورة الحجاب وتغطية الوجه ولكنها حينما انتقلت للعيش في ثقافة أخرى اختلفت ظروفها المادية والنفسية وأصبح مفروضا عليها أن تتعامل مع رجال ونساء من ثقافات وأديان مختلفة ودون وسيط. والمشكلة في المعاملات الإنسانية أنها مباشرة وشفافة تدخل في تشكيلها لغة الجسد أكثر من لغة اللسان؛ وبهذا فإن مظهر هذه السيدة وطريقة حجابها أصبح أكثر وضوحا من ذي قبل، بحيث لم يعد فقط مظهراً دينياً بل أصبح كذلك عاملا مؤثرا على طريقة كلامها وتقبلها من الآخرين وتفاعلها معهم. ورغم أن هذا قد يكون حقيقيا حتى وهي في السعودية إلا أنه أصبح أكثر حدة وظهورا في بلد مثل أمريكا كونها لا تشترك بغطاء الوجه مع سيدات مسلمات وعربيات كثيرات؛ فظهرت وكأنها "متزمتة" أو "أصولية" أو "غريبة" وربما "وحشية" خصوصا أن هذه المعاني السلبية أصبحت لصيقة بالسعوديين مهما كان صنفهم، فكيف وهم كذلك يعززون هذا بخجلهم من الانخراط في المجتمع سواء كانوا متمسكين بغطاء الوجه أم غير متمسكين؟وربما تكون هذه السيدة السعودية شعرت بهذا الضغط النفسي، ولكنها لم تتجرأ أن تناقشه مع زوجها الذي كانت تتحدث عنه بوصفه متدينا، ففضلت أن تفعل ما تراه مناسبا بعيدا عن عيني زوجها فبعد أن يوصلها زوجها للكلية في سيارته ثم يبتعد عن المبنى تقوم برفع غطاء وجهها مبقية على حشمتها بالعباءة الفضفاضة وحجاب الرأس الأسود الذي لا يظهر شعرها. قد يعتبر البعض هذا تناقضا وفي الحقيقة يمكن النظر إليه بشكل واقعي تحليلي. فالسبب خلف غطاء الوجه هو التستر والحشمة؛ وهذه معان تتشكل في الأساس وفق الثقافة. فالمرأة الأمريكية التي ترتدي تنورة قصيرة تحت الركبة تعتبر محتشمة في ثقافتها مقارنة بالمرأة التي ترتدي تنورة قصيرة فوق الركبة. والمرأة المصرية التي ترتدي حجابا على الرأس هي أكثر حشمة من التي ترتدي تنورة قصير فوق الكاحل، في حين أن المرأة السعودية التي تكتفي بغطاء الرأس وكشف الوجه قد ينظر إليها على أنها أقل سترة من تلك التي تغطي وجهها أو تلك التي تزيد بلبس القفازات. إذن فالحشمة هي فعلا معنى ثقافي بحت، والذي حصل مع السيدة السعودية المذكورة أن زوجها لم يراعِ اختلاف الثقافة ولم يفهم أصل الحجاب فنقل مفهوم "الحشمة" السعودي إلى أمريكا من منطلق أن غطاء الوجه هو أمر ديني لا يتغير بتغير الظرف والمكان؛ بينما واقع الحال عكس ذلك، فالدين أكثر يسرا وطواعية مما يعتقده البعض ومن بينهم زوج تلك السيدة. ولكن لأنه لم يكن الضحية في الموضوع لم ينتبه للخلل الذي وقع به رغم أنه قام بحلق لحيته "المسماة بالعوارض" حينما لاحظ أنه لا يلاقي قبولا من بعض الذين يقومون بتدريسه بعض المواد في الكلية. وقد يكون التناقض في تفكير هذا الرجل أكثر وضوحا وأصدق من التناقض الظاهري في سلوك زوجته لأنه تجرأ على حلق اللحية والتي هي عادة محببة وصى بها عليه الصلاة والسلام من أجل أن يلاقي قبولا اجتماعيا بينما لم يهتم بهذا الأمر فيما يتعلق بزوجته مع العلم أن أغلبية المذاهب الإسلامية لا ترى إلزامية غطاء الوجه؟ويمكن لنا أن نأخذ قصة هذه السيدة بوصفها مثالا نقيس عليه ما نراه من تناقض ظاهري في رفع غطاء الوجه في الطيارة أو خارج العمل أو في العمل أو بعيدا عن منطقة القبيلة أو العائلة. والواقع أن معظم اللاتي يقمن بهذا إما أنهن لا يعتقدن أصلا بوجوب ستر الوجه من الناحية الدينية ولا يكترثن بتقاليد تراثية لا تلزمهن دينيا، وبهذا يخترن الالتزام بغطاء الوجه ثقافيا وليس دينيا؛ أي في حالة تغير الثقافة مثل "ثقافة العائلة" أو "ثقافة البلد" أو "ثقافة العمل" فإن هذا التغير يتبعه تغير في السلوك. وعليه فإنه يجب أن نفهم الفرق بين من تعتقد بشكل حاسم أن ستر الوجه واجب ديني دون إلصاق أي قيمة ثقافية عليه، وتلك التي ترى أن ستر الوجه واجب ديني متعلق بالثقافة؛ وثالثة ترى أن غطاء الوجه هو ممارسة ثقافية قد يدعمها الدين؛ ورابعة ترى أنه ممارسة ثقافية بحتة. وهذا الترتيب يبدأ من الأكثر تزمتا بوجوب غطاء الوجه إلى الأقل؛ وبين الطرفين فئتان إحداهما أقرب إلى جعل الدين مؤثرا على الثقافة، والأخرى تجعل الثقافة هي الأصل المدعوم من الدين باعتبار الدين عنصرا متغيرا كالسياسة والاقتصاد وغيرها من العناصر التي تؤثر على الثقافة من زمن إلى آخر.أعتقد أن هذه الفئات الأربع من السيدات السعوديات يمكن أن ينظر إليهن بشكل مستقل على اعتبار أن كل فئة تنطلق من مبادئ معينة في سلوكها. ولكن لو نظر إليهن على أنهن فئة واحدة فسوف يبرز التناقض لأي شخص ينظر إليهن من خارج الثقافة. [c1]*نقلاً عن/ صحيفة "الوطن" السعودية[/c]
صراع المرأة السعودية مع غطاء الوجه
أخبار متعلقة