ما من مرة أقرأ تعقيباً أو تعليقاً على بعض القضايا العربية والإسلامية، وبخاصة على الإنترنت ومن عامة القراء، إلا وأصادف عبارة شائعة تقول مثلاً "لا شيء يفيد العرب إلا القوة"، "لا شيء يردع الولايات المتحدة إلا القوة"، "لا شيء يحمينا إلا القوة"... وهكذا!ولا يخفى أن المراد هنا هي القوة العسكرية والجيوش الرادعة والأساطيل والطائرات وغيرها، فكأنه لو وضع العرب يدهم على مثل هذه الإمكانات لانتهى ضعفهم وتحقق لهم المجد والسؤدد. كثيراً ما يُقال أيضاً إن "العالم لا يحترم إلا القوة"، وإن القوي وحده يحصل على حقوقه. وهنا أيضاً لا يهيمن على الأذهان إلا القوة العسكرية القادرة على إخضاع كل خصم وإنهاء كل خلاف بالحسم. والواقع أن مشكلتنا في العالم العربي ليست قلة السلاح، ولا ندرة المقاتلين، فهناك قدرات عسكرية ضخمة، لو تمت تعبئتها والتنسيق بينها لكانت قوة قتالية مؤثرة تقلب الموازين، على صعيد دول العالم الثالث... على الأقل! غير أن نقطة ضعفنا البارزة إنما هي في شيئين: تقديسنا للقوة العسكرية، وتضارب وغموض أهدافنا السياسية في توظيف القوة. لم يكن العالم العربي أو الإسلامي وحيداً في التركيز على بناء القوة المسلحة والجيوش أول ما بدأت النهضة والتحديث. فهكذا كانت بداية اليابانيين والروس مثلاً. وسار على الدرب قبل ذلك وبعده العثمانيون والإيرانيون والعرب. وقد وقعوا جميعاً، ونحن معهم، في خطأ تاريخي جسيم، إذا حاولنا اجتزاء القوة العسكرية عن بقية أسس ومعطيات الدولة الحديثة، والقيم السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية والقانونية والمؤسساتية المرافقة. فالقوة العسكرية وحدها، إن هيمنت على المجتمع والبلاد، قوة مدمرة، والدولة التي تكتفي ببناء الجيش تكون كمن يزود مركبته بمحرك قوي من دون الالتفات إلى اللوازم الأخرى، وقد تنطلق المركبة بسرعة كاسحة، ولكن في انطلاقة لا يمكن التحكم بها.. ومدمرة. ولهذا دفعت روسيا واليابان مثلاً ثمناً فادحاً للاكتفاء باستيراد التكنولوجيا العسكرية من الغرب خلال القرن التاسع عشر وبداية العشرين، من دون الالتفات إلى مصادر القوة الأخرى في مؤسسات وثقافة الغرب. وبينما استوعبت اليابان دروس القوة والغزو والفتوحات مع نهاية الحرب العالمية الثانية، بدأت روسيا من خلال الاتحاد السوفييتي مسيرة عسكرية جديدة ومنافسة مهلكة مع العالم الغربي، وبخاصة الولايات المتحدة، انتهت في خاتمة الأمر بسقوط النظام الشيوعي وتفكك الاتحاد السوفييتي والمعسكر الاشتراكي برمته. وكان تقديس القوة العسكرية ركناً ركيناً من التجربة الألمانية على مدى أكثر من قرنين. وقد أعطت ألمانيا للتراث العالمي في مجال الفكر العسكري والتخطيط الاستراتيجي ما يماثل ربما عطاءها في مجالات الفن والفكر والسلام. ولكن الألمان بدورهم دفعوا عام 1945 ثمناً فادحاً لتقديس القوة، فاحترقت المدن ومات الملايين وانقسمت البلاد! وفي العالم العربي، وعلى امتداد القرن العشرين، ولأسباب لا مجال الآن لمناقشتها، أُعجبنا دائماً بالقوة العسكرية، ووضعناها فوق أي مجال آخر من مجالات القوة. فقد قال شاعرنا منذ قرون طويلة إن "السيف أصدق أنباء من الكتب"! وقد أُعجبنا بلا شروط بألمانيا النازية والتجربة الناصرية وحروب صدام حسين. وحاصرنا كل مثقف ومفكر حاول جلب انتباهنا لمخاطر هذا الإعجاب. ولكننا بعكس كل الأمم الأخرى، لم نفق من عبادة القوة رغم كوارث 1967 و1990 و2003، بل إننا افتتحنا مع الحادي عشر من سبتمبر 2001 فرعاً جديداً لاستعراض القوة ضد الغرب بإعلان حرب الإرهاب وتعبئة الشباب! كيف تتصور المخيلة الإسلامية الحزبية الأصولية القوة والحرب والقتال؟ وكيف ترسم المستقبل العسكري الدولي للعالم الإسلامي أو حتى لدولة الخلافة، بين الأمم، وفي عصر العولمة والمنافسة الصناعية والاستثمار؟ هل هناك دولة كفر ودولة إسلام؟ هل ثمة حرب دائمة وجهاد متصل أم هدنة دائمة واعتراف بالواقع وسلام؟ أما سيد قطب فهو واضح في تحديد بعض ملامح الصراع المحتمل في ظل مثل هذه الدولة! يقول في المعالم: "كل أرض تحارب المسلم في عقيدته، وتصده عن دينه، وتعطل عمل شريعته، فهي "دار حرب" ولو كان فيها أهله وعشيرته وقومه وماله وتجارته.. وكل أرض تقوم فيها عقيدته وتعمل فيها شريعته، فهي "دار إسلام" ولو لم يكن له فيها أهل ولا عشيرة، ولا قوم ولا تجارة" (القاهرة 1983، ص 159). ولا يكشف لنا "الإخوان المسلمون" في مصر وسوريا والأردن أو "الجماعة الإسلامية" في باكستان، ما سياستهم في مجال الجهاد والقوة إذا تمكنوا من بلدان العرب والمسلمين. اللهم باستثناء "حزب التحرير"، الذي يعترف في كتبه بمثل هذه التفاصيل الصريحة! ففي كتاب "نظام الحكم في الإسلام" لقائد الحزب "عبدالقديم زلوم"، وهو الكتاب الموسع والمنقح المبني على نفس الكتاب الذي وضعه مؤسس الحزب "تقي الدين النبهاني"، نقرأ ص 167 من طبعة 1996 ما يلي: "الدولة الإسلامية في حالة جهاد دائم، والأمة الإسلامية تدرك أن الحرب بينها وبين غيرها من الشعوب والأمم محتملة في كل وقت. لذلك يجب أن تكون جميع منشآتها الحربية، صناعية كانت أم عسكرية في مستوى يفوق منشآت الأمم الكبرى، وأن تكون التغيرات في المقدرة الصناعية والعسكرية متحققة بشكل مستمر، وأن تكون في وضع مالي متصاعد، وفي حال استعداد دائم... إن الدولة الإسلامية ستبقى في جهاد دائم، لأن واجبها الدائم هو حمل الدعوة إلى الأرض، وهو يقتضي الجهاد حتى يعم الإسلام الأرض". ولا يكتفي قادة "حزب التحرير" الإسلامي بهذا الجانب التنفيذي، بل يتحدثون في الكتاب نفسه عن البنية التحتية اللازمة لمثل هذا الجيش الإسلامي الجبار: "يجب أن تكون الدولة والأمة في حالة استعداد دائم، وأن تعيش عيشة حرب... وأن تكون كلياتها العلمية من الكثرة بمكان، وفي أعلى مستوى حتى تُخرِّج مئات الآلاف من المهندسين، والمخترعين، والفنيين، والتكنولوجيين، وأن تكون في حالة تقدم وتطور مستمر لتتمكن من أجل أن يكون إعدادها لقوتها بشكل هائل يرعب عدو الله وعدوها الظاهر والمحتمل.. وهذا يقتضي منها أن تعيش اقتصاد حرب، وأن تكون في وضع مالي متصاعد، حتى تستطيع أن توفر الأموال الطائلة، التي تقتضيها الصناعة الحربية للأسلحة الدائمة التطور، لدولة تريد أن تكون الدولة الأولى في العالم أجمع". ولا شك أن مثل هذه الرؤية للإعداد العسكري والقوة الاقتصادية الداعمة لها متكاملة، ولكن حزب التحرير ومفكريه لم يشغلوا أنفسهم بالقضايا المتصلة بإعداد مثل هذه القوة كالمبالغ الطائلة المطلوبة والتي تتجاوز "تريليونات" الدولارات، وضخامة الإنفاق المتوقع على تطوير الأسلحة والمناورات، وشراء خامات الحديد والكروم واليورانيوم، والرواتب الضخمة للعسكريين والمدنيين، من أطباء وممرضين ومهندسين وتقنيين، في هذا الجيش الجبار، "لدولة تريد أن تكون الدولة الأولى في العالم أجمع"! ولا يتصور هؤلاء الأثر الاجتماعي والاقتصادي والسياسي الهائل لعسكرة المجتمع، وبناء كل مؤسسات الدولة والحياة الإنتاجية والتعليم وغيره حول المؤسسة العسكرية. ولا يأخذون بالحسبان كذلك ردود فعل مجتمعات العالم والدول الكبرى، بما في ذلك أميركا والصين وروسيا والهند، على تنامي مثل هذه القوة من دون أن تحرك إحداها ساكناً! إن دولة الإسلاميين في حدودها التي يتحدثون عنها بصراحة، سوف تهز كافة المصالح، وتقتطع جمهوريات وأقاليم في العديد من الدول، وتحرك أقليات وأغلبيات إسلامية في دول كثيرة ضمنها الولايات المتحدة وروسيا، وفرنسا والصين، وبريطانيا وأستراليا، وكندا وإسبانيا، وعدد لا بأس به من دول أفريقيا. كما أن توحيد كل هذا الكيان الإسلامي في دولة خلافة واحدة، وتطوير هذا الكيان على كافة الصُعد السياسية والاقتصادية والبنى التحتية والخدمات ومستوى المعيشة، ليشكل قاعدة يتم بناء القوة الإسلامية فوقها أمر يصعب تحقيقه في المستقبل المنظور... لكي لا نقول أكثر! نحن إذن في العالم العربي والإسلامي، بحاجة ماسة لأن نفهم ما القوة المطلوبة، وما السبيل إليها، وماذا سنفعل بها، وما تأثير مبالغات وخيالات الإسلاميين الحزبيين على شبابنا وعلى فكرنا السياسي وعلى إعلامنا. إن مناهجنا الدراسية وبخاصة في حصص التربية الإسلامية بحاجة إلى توعية الطالب بحقائق العصر ومتطلبات التنمية وكيفية التعايش مع الأديان والثقافات، وذلك كي نأمن على هؤلاء الشباب من التأثير المدمر لأشرطة المتطرفين والجهاديين ممن لا يحملون لنا ولهم سوى الدمار. وبحاجة ماسة لأن تلعب وزارات الأوقاف دورها المفقود في هذا المجال، حيث لا تزال مفاهيم القوة الساذجة ومهاجمة أهل الأديان الأخرى هي الطاغية. إن العرب والمسلمين في هذا القرن لا يزالون يجهلون حقاً ما هي القوة وكيف يصلون إليها. ولهذا سنؤذي أنفسنا لزمن قد يطول، ونؤذي الآخرين! [c1]نقلا عن/ صحيفة "الاتحاد" الإماراتية[/c]
المسلمون ... ودولة "الجهاد الدائم" !
أخبار متعلقة