نبض القلم
الإنسان بطبعه ميال إلى الكمال, ونَّزاع إلى الطموح لتحقيق غاياته العليا, فالطموح يدفع الإنسان إلى الأمام, ويحبب إليه المعالي, ولذا فإن الشخص السوي يدفعه طموحه للوصول إلى أعلى المراتب, فهو لا يكاد يصل إلى درجة من السمو إلا وجد فوقها مراتب أسمى, فهو في حركة دائبة ونشاط مستمر, وحياة متجددة دوماً, وأساس ذلك هو الإيمان بسمو الهدف, ونبل الغايات.وقد كانت تربية النبي محمد صلى الله عليه وسلم قبل بعثته تقوم على منهاج يتضح فيه سمو النفس وبعد الهمة ونزوع إلى الكمال, فقد رفض العروض المالية المقدمة إليه ليكف عن دعوته التي واجهت في بدايتها صعوبات كثيرة ولقي بسببها عنتاً وأذى كبيراً, ولكن همته العالية دفعته للأخذ بالأسباب, وصولاً إلى الكمال, فأخذ يربي نفسه وأصحابه على أكمل الصفات, وأحسن الأمور, فخلق في نفوس أصحابه الشعور بالعزة والرفعة, والسعي إلى الكمال وعدم القناعة بالدون إذا أمكن الوصول إلى القمة.ومن وحي هذا الشعور القوي بالسعي إلى الكمال كان يأمر أصحابه بالأخذ بالأحسن دائماً سواءً في القول أم العمل أو الفكر والرأي والخلق والمعاملة, وهو ما أكده القرآن الكريم في قوله تعالى : «وقل لعبادي يقولوا التي هي أحسن» وقوله تعالى : «فبشر عبادي الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه» وحتى في عملية مواجهة الأعداء فإنه كان مأموراً بمعالجة الأمور بهدوء وروية, للوصول إلى الغايات السامية, وقد قال الله تعالى في ذلك : «أدفع بالتي هي أحسن» وحتى في الدعاء قال لأصحابه وهو يعظهم «إذا سألتم الله فأعطوا الرغبة, واسألوا الفردوس الأعلى, فإن الله لا يتعاظمه شيء», رواه البخاري ومسلم.وكان النبي صلى الله عليه وسلم يحبب القوة إلى أصحابه ويحثهم على الأخذ بزمامها, وينهاهم عن الكسل وينعي على القاعدين عن العمل, والمتخاذلين في طلاب المجد والكمال. وقد قال في ذلك : «المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف, وفي كل خير, احرص على ما ينفعك, واستعن بالله, ولا تجزع, وفي رواية (لا تعجز) وإن أصابك شيء فلا تقل : لو أني فعلت كذا, كان كذا وكذا, ولكن قل قدر الله ما شاء فعل, فإن لو تفتح عمل الشيطان» رواه مسلم.ولقد كان لهذا النمط العالي من التربية النبوية أثره الكبير في نهضة الأمة الإسلامية, حيث أعطاها متانة في البناء وقوة في النفوذ وسعة في السلطان, وبسببها كان السلف الصالح يتعشقون الحرية, ويأبون حياة الذل والاستعباد, بل يتنافسون في نيل شرف الجندية وحماية الوطن وصيانة الحرية, فكانوا يتسابقون إلى التبرع للمشروعات الخيرية وأعمال البر والإحسان, وكانوا يتبارون في حوز وسام الشرف بكثرة البذل والعطاء والعمل الصالح.وقد كان الطموح وقوة العزيمة وشدة الإرادة هي القوى المحركة للرعيل الأول من شباب هذه الأمة, لذلك رأيناهم مقبلين على العلم, راحلين إلى العلماء, ناشرين لواء الثقافة والحضارة في كل مكان يحلون به, وكانوا رواداً في كل ميدان من ميادين العلم والمعرفة والاقتصاد والتجارة, فهذا الإمام الشافعي كان قد عرف برحلاته وتطوافه في البلدان يطلب العلم, واشتهر بكثرة سهره وبحوثه وتنقيبه في المسائل واستنباطه للأحكام, وكان يستعذب ذلك, بل يشعر بالمتعة من المتاعب التي يلقاها من جراء شغفه في البحث العلمي, لأنه بذلك يكمل طموحه, ويلبي رغبته في تكوين شخصيته وتحقيق ذاته, لذلك هو يقول:سهــري لتنقيـح العلــوم ألذ لــي [c1] *** [/c] من وصل غانيــــه وطيب عنـــاقوألـــذ مــن نقــــر الفتــــاة لدفهـــــا [c1] *** [/c] نقري لألقي الرمل عن أوراقيأأبيت سهـــران الدجــى وتبيــتــه [c1] *** [/c] نومـاً وتبغــى بعـد ذاك لحقـاقيوالطموح ليس أمنية أو انفعالاً يعتلج في نفس الفتى أو الفتاة, بل لا بد له لينتج من متابعة السعي وكثرة العمل, ودوام المثابرة وإلا فإنه سيكون ضرباً من الأماني الباطلة والآمال الكاذبة.وليعلم الشباب أن كل تعب يبذلونه في سبيل طلب العلم وتحصيل المعرفة يهون أمام الغايات السامية والمقاصد الرفيعة, وفي ذلك يقول الشاعر :ومن يكن العلياء همة نفسـه [c1] *** [/c] فكل الذي يلقاه فيها محببوقال آخر :تـهـون علينــا في المعـالـي نفـــوسنــا [c1] *** [/c] ومن يخطب الحسناء لم يغلة المهروبعد, أقول لشبابنا إنه من واجبهم في مرحلتنا الراهنة أن يسعوا جاهدين لبناء مستقبلهم بالجد والاجتهاد وإخلاص النية في القول والعمل, وعليهم في الوقت نفسه ألا يستسلموا لليأس, ولا ينبغي لهم أن يقعدوا عن الكمال ما دام فيهم عرق ينبض بالأمل.وفي ذلك يقول الشاعر : فلم أر في عيـوب النــاس عيبــاً كنقص القادرين على التماموإني أدعوا شبابنا إلى الطموح, وهو صفة في النفس العالية, تتعانق مع الاستعدادات الفطرية, والقدرات الذاتية, والإرادة الصلبة. وقد قال الشاعر :أبـارك في النـاس أهـل الطمـوح [c1] *** [/c] ومن يستـلـذ ركــوب الخــطــرومــن يتهــيــب صعـود الجبــال [c1] *** [/c] يعيــش أبـــد الدهـــر بين الحفـــرومن يستلذ ركوب الخطريعيش أبد الدهر بين الحفر[c1]* خطيب جامع الهاشمي (الشيخ عثمان)[/c]