نعرف الفتوى أو الفتيا عند الفقهاء بأنها إخبار بحكم شرعي في أمر من الأمور الطارئة، وتأتي غالباً جواباً عن سؤال لقضية مطروحة. وهي نوعان: نوع لا يحتاج إلى اجتهاد لوضوح حكمه من القرآن أو السنة، ونوع يحتاج إلى اجتهاد، وهو الذي يثير الإشكاليات العديدة في مجتمعاتنا المعاصرة، وبخاصة أن أهل الإفتاء ينسبون آراءهم الشخصية إلى الله، فيقولون عن فتاواهم، ولو في أمر سياسي أو اقتصادي أو علمي أو اجتماعي مختلف فيه حتى بين أهل الاختصاص أنفسهم، بأنها حكم الله أو رأي الدين في تلك الأمور الخلافية، انطلاقاً من أنهم يبلغون عن الله، وهم الوكلاء والأوصياء والحراس على الدين، وهذه هي الإشكالية الحقيقية للفتيا. ولو أن أهل الفتوى قالوا ووضحوا للناس أن فتاواهم في الأمور السياسية والاقتصادية والاجتماعية وغيرها من القضايا العامة، والتي هي بطبيعتها محل اختلاف بين الناس، إنما هي مجرد اجتهاداتهم الشخصية بناء على فهمهم للنص الديني في تفاعله مع السياق الاجتماعي والسياسي، لما كانت الفتاوى مثيرة للاضطراب والبلبلة والحيرة، ولما تحولت إلى أداة لعرقلة التنمية والإنتاج وسبباً لتغييب العقل في مواجهة القضايا المعاصرة. إن دعوى أن "الفتيا" هي حكم الله في القضية، تخالف منهج الرسول الذي يقول لقائده "بريدة": "إذا حاصرت حصناً للعدو، فطلبوا منك أن تنزلهم على حكم الله، فلا تنزلهم على ذلك، بل أنزلهم على حكمك لأنك لا تدري أتصيب حكم الله فيهم أم لا"، إضافة إلى مخالفتها لمنهج الأئمة الكبار الذين كانوا يتورعون عن استخدام لفظ التحليل أو التحريم بل يقولون في فتاواهم: أحب كذا، وأكره كذا، ويعجبني هذا... إلخ. على امتداد السنوات العشر الأخيرة، أصبحت مجتمعاتنا أسيرة ومدمنة للفتاوى في شؤونها كافة، تهرباً من مسؤولية التصدي العقلاني للقضايا واستسهالاً في اللجوء إلى أهل الفتيا، حتى في أدق شؤونها الخاصة، ظناً منها أن في ذلك براءة للذمة أو العهدة، وليس الأمر كما ظنوا، فأهل الفتوى مهما اتقوا وأخلصوا ليسوا بمنجاة لنا من العذاب، كما أنهم مهما تورعوا ليسوا بشافعين لنا يوم الحساب، لأن المسؤولية فردية ولأن ضمير المسلم هو معيار الحلال والحرام وهو (المفتي) وإن أفتاك الناس وأفتوك. الآن دعونا نتساءل: من المسؤول عن أزمة الفتاوى وتفاقم إشكالياتها؟ هناك من يحمل الإعلام المسؤولية، وبخاصة الفضائيات (الخاصة) التي تتنافس لكسب المشاهدين بالمثير والغريب من الفتاوى، وهناك من يتهم المفتين الجدد الذين دخلوا سوق الفتاوى المربحة بهدف الشهرة والكسب، بينما يستسهل بعضهم إرجاع الأمر إلى (نظرة المؤامرة) متهماً جهات تريد تصيد أخطاء الفتاوى ذريعة للمطالبة بتغيير الخطاب الديني وإقصاء دور الدين في المجتمع. في تصوري أن المسؤولية تقع على طرفين: أولهما الجماهير التي لا تحكّم ضميرها الديني ولا تعمِل عقلها البسيط في أمورها الخاصة، فتلجأ إلى عالم الدين في كل صغيرة وكبيرة. وثانيهما هو عالم الدين الذي لا يتورع عن الإفتاء حتى في الأمور التي لها أهلها المختصون الأقدر على فهمها، ولا يوضح للناس ضرورة رجوعهم إلى المختصين. ليس عيباً أن يتورع المفتي عن الفتوى ويقول لا أدري بل تلك مزية، وقد سئل الإمام مالك رضي الله عنه في 40 مسألة فقال: لا أدري. لكن ما هي الحلول المطروحة حالياً للحد من أزمة الفتاوى؟ هناك من يطالب بقصر الفتاوى على المجامع الفقهية التي تتولى الاجتهاد الجماعي في القضايا المعاصرة، وبذلك نتلافى سلبيات وأخطاء الفتاوى الفردية ولتكون فتاوى المجامع "ملزمة"، وهذه دعوى غير علمية وغير عملية، وضررها أكبر من نفعها، ونحمد الله أنه لا "بابا" في الإسلام، يحد من حرية البحث والاجتهاد، ثم إنه لا إلزام في الفتاوى حتى "الجماعية" منها. وهناك من يطالب بقصر الفتاوى على العلماء "الثقات" المستوفين شروط الفتوى وضوابطها، ولكن هذا ليس بحل، لأن هؤلاء يتناسون أو يتجاهلون أن العلماء "الثقات" هم أكثر إشكالية من "الهواة" بسبب الثقة فيهم وكثرة أتباعهم وصعوبة الرد عليهم من غير التعرض للتجريح، بخلاف الهواة الذين يمكن بيان أخطائهم وتحذير الناس منهم. بل أزعم أن معظم الفتاوى المعاصرة في السنوات الأخيرة، والتي سببت أزمات وأخطاراً في مجتمعاتنا، كان وراءها علماء "ثقات"، وأقصد بها فتاوى التعصب والكراهية، فتاوى التحريض على العنف والتطرف، فتاوى هلاك الشباب في العراق، فتاوى التكفير، الفتاوى المناقضة للعقل والمنطق والمسببة لأكبر الإشكاليات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والعلمية في مجتمعاتنا. إن جانباً كبيراً من تلك الفتاوى الجدلية، مصدره علماء ثقات مؤهلون، لا نشك في إخلاصهم وعلمهم وتقواهم، بل هم من كبار علمائنا! فالذين أباحوا زواج المسيار والزواج العرفي والزواج بنية الطلاق... هم علماء أجلاء ومجامع فقهية -مع أن كل ذلك يناقض مقاصد الشريعة في الزواج- والذين رخصوا للرجل أن يكذب على زوجته إذا تزوج بأخرى، علماء ثقات. والذين وقفوا ضد عمل المرأة وتعليمها وأخيراً حقوقها السياسية وتوليها المناصب القيادية، بل حتى قيادتها السيارة، هم علماء كبار -قديماً وحديثاً- والذين يرون أن دية المرأة نصف الرجل، علماء محترمون، وهم أنفسهم يفتون بالتفريق بين الزوجين وهدم الأسرة لمجرد عدم التكافؤ في النسب القبلي! الذين حرموا الموسيقى والأغاني والفنون والتصوير، علماء ثقات. والذين حرضوا شبابنا للقتال في العراق، علماء كبار، والذين أيدوا صدام في غزو الكويت، علماء كبار، والذين أفتوا بحرمة الاستعانة بالقوات الدولية لتحرير الكويت، علماء كبار وأهل فتوى! والذين رأوا "الزرقاوي" شهيداً، علماء كبار في جماعة "الإخوان المسلمين" في فلسطين والأردن! والذين أفتوا بالتبرك ببول النبي وإرضاع الكبير، قديماً وحديثاً، علماء كبار. والذين يرون ختان الإناث علماء كبار، والذين يرفضون عمليات زراعة الأعضاء، علماء ثقات، والذين شجعوا العمليات الانتحارية وقالوا إن الحوار مع اليهود لا يكون إلا بالقنابل البشرية، هم كبار العلماء. والذين شجعوا المسلمين على عدم الاندماج وحرموا التجنس بجنسية الدول غير الإسلامية، هم أيضاً علماء كبار. والذين يقفون ضد عطلة (السبت) في الكويت، هم علماء ثقات، والذين أباحوا، وكذلك الذين حرموا، التعامل مع البنوك (الربوية) هم علماء ثقات، بل مجامع فقهية معتبرة... فليس الحل في العلماء الثقات ولا المجامع الفقهية، بل في احترام التخصص العلمي وعمل العقل ومراعاة المقاصد العامة. [c1]* كاتب وأكاديمي قطري[/c]
|
فكر
أزمة الفتاوى... هل يحلها العلماء الثقات؟
أخبار متعلقة