لا يردّد المرء قاعدة نظرية حين يقول إن أقصر سبيل الى إنجاز عملية التوحيد الوطني في أي بلد – وأَمثَلتُه في الوقت عينه – (هو) التقدم أشواطاً بعيدة في تنمية ذلك البلد وإرساء النظام الديمقراطي والمؤسسات فيه. فلقد قام دليل على هذا التلازم (بين التوحيد وبين الديموقراطية والتنمية) في تجارب عدة من البناء الوطني أو القومي في العالم المعاصر ليعزز، في الآن نفسه، صدقية ما كان في عداد الاقتناع النظري لدى كثيرين لم يستسيغوا كيف يمكن لتوحيد وطني أو قومي أن يرى النور ويصمد بمعزل عن شرطه التحتي: التنموي والديمقراطي. وقد لا نحتاج الى كبير شرح لبيان حقيقة أن الأوطان ليست مجرّد جغرافيا وبشر، بل علاقات اجتماعية وسياسية، وأنها لا تقوم أو تكون كيانات لشعوب وأمم إلا متى انتسجت الروابط وتمتنت بين الأفراد والجماعات واستقر في وعي الجميع أنهم يكوّنون وحدة اجتماعية واحدة (جماعة وطنية او قومية)، فقد يكون ذلك من «بداهات» الأمور في الاجتماع السياسي. إن الذي يمكن أن يحتاج الى بعض البيان هو كيف يحصل ذلك الوعي (بالهوية الوطنية أو القومية)، وكيف يكون للتنمية والديمقراطية أثرٌ في تكوينه أو في استيلاد ظروف ذلك التكوين. قد يكون الشعور – الفردي والجماعي – بالانتماء الى وطن والى شعب أو أمة حصيلة التربية على قيم مشتركة موروثة، أي حصيلة فعل عاملين مستمرين: الموروث الثقافي والديني والاجتماعي الذي يمثل موارد هوية لجماعة إنسانية ما، ثم الأشكال والصور المختلفة لإعادة إنتاج ذلك الموروث وتوزيعه اجتماعياً من طريق التلقين والتنشئة اللذين تنهض بأدائهما مؤسسات متعددة ومختلفة من أسرة ومدرسة ومؤسسة دينية وإعلام وقانون... الخ. غير أن هذا المستوى من الشعور لا يكون دائماً كافياً لإنتاج وعي بالانتماء الوطني والقومي بمعناه السياسي وإن كان قادراً على إنتاج وعي ثقافي بالانتماء الى حضارة، أو على إنتاج وعي بالانتماء الى عقيدة دينية. لا يكفي المرء مثلاً أن يولد في مصر أو المغرب من أبوين مصريين أو مغربيين، وأن يتلقّف تاريخ هذين المصرين من أمصار العرب، وأن يتشبع بعظمة رموز تاريخهما، وأن تكرّس البيئة العائلية والتربوية والإعلامية قيم الاعتزاز بالانتماء الى البلد عنده، حتى تتكون في وعيه مبادئ الوطنية المغربية أو المصرية، أو حتى يتحصّن وعيه من خطر البُرم بذلك الانتماء أو الرغبة في التحلل منه. من يعتقد أن ذلك وحده يكفي، يفترض أن الوعي بالانتماء الى وطن أو أمة وعي قبلي جاهز، أو حتى من عمل التربية والتلقين كوسائط ناقلة أو حاملة لذلك المعطى الجاهز: المصنوع في رحم الزمن الماضي! قلنا إن الأوطان ليس حقيقة جغرافية، وإنما هي حقيقة اجتماعية – اقتصادية وسياسية، وأن الشعوب والأمم ليست مجموعات سكانية تقوم بينها علاقات القرابة والجوار، وإنما هي كيانات اجتماعية ملتحمة بعلاقات الاجتماع السياسي الجامعة لا بعلاقات القرابة الأهلية. ولا تقوم بين الجماعات الاجتماعية روابط انصهارية تدمج بعضها في بعض وتصنع لها ماهية واحدة أو مشتركة – ترتفع بها عن مجرد علاقات الانتماء الطبيعي (= العائلي، العشائري...) – إلا متى قامت بينها المصالح المادية التي تخلق فيها ذلك النسيج الواحد المشترك وتجعل الواحدة منها تتعرف على نفسها في العلاقة بالأخرى، أو قل تتعرّف على نفسها داخل الكل الاجتماعي الذي يأخذ شكل شعب أو أمة أو جماعة وطنية. لا يتخلى المرء بيُسر عن روابطه الطبيعية – الأسرية أو القبلية – إلا متى تولّدت مصالح جديدة تربطه بأنساق اجتماعية أعلى من البنى الطبيعية وأبعد مدى من المصالح التي تنشأ في كنف تلك الروابط والبنى الطبيعية. الى الدولة، لا إلى الثقافة والقيم، تعود وظيفة إنتاج تلك الشبكة الجديدة من العلاقات التي تعيد توزيع الأفراد والجماعات توزيعاً اجتماعياً جديداً ضعف روابط متمايزة عن روابط النسب والدم والقرابة السابقة. وليست الوظيفة هذه أيديولوجية، أي تدور في نطاق صناعة وعي جماعي بانتماء جديد يقطع به الناس مع عصبياتهم الصغرى، وإنما هي وظيفة اجتماعية وسياسية في المقام الأول. إنها الوظيفة التي لا تنجح في تحقيق هدف الصهر والدمج إلا من خلال إنتاج مصالح عامة تبرر للأفراد والجماعات الارتباط ببعضهم من خلالها والشعور الجماعي بالانتماء المشترك، وتخلق لديهم الوازع الضروري للدفاع عن أنفسهم بوصفهم جماعة واحدة. بهذا المعنى تنشأ فكرة الوطن والشعب الواحد. بمقتضى المصلحة تنشأ لا بمقتضى فكرة أو مبدأ مجرد يجري نشره فيهم من خلال وسائط التأثير المختلف. وليس معنى ذلك أن الأيديولوجيا غير ذات فائدة في مضمار بناء الشعور الوطني والقومي عند جماعة اجتماعية ما، أو أن الوظائف الأيديولوجية للدولة غير ذات قيمة في مجال صناعة وعي جمعي بالانتماء المشترك لدى تلك الجماعة، وإنما القصد أن فعل الأيديولوجيا نفسه متوقف على وجود مصلحة مادية جماعية تبرره، أو – على الأقل – تسمح له بأن يحرث في أرض خصبة، وإلا فإن الأيديولوجيا وحدها لا تخلق شعوراً معزولاً عما يؤسس له ولكيونته. الأوطان والشعوب والأمم ليست حقائق قبلية مطلقة، إذاً، وإنما حقائق تُبنى بناء مستديماً من خلال التوليد المستمر للمصالح المادية التي تصنع بين الناس روابط فتدمجهم في وحدات اجتماعية وتكوِّن لديهم أناهم الجمعية. هنا نقطة التقاطع أو التلاقي بين الاجتماعي – الاقتصادي وبين السياسي في عمل الدولة. حين تقيم الدولة البنى التحتية، وتربط الأرياف بالمدن وبالحياة الحضرية، وتنشر التعليم، وتوفر فرص العمل للقوى العاملة، وتحمي حقوق المنتجين، وتحمي الأمن الاجتماعي والممتلكات، فهي تنهض ببرنامج تنموي (اجتماعي – اقتصادي)، لكنها تنجز في الوقت عينه برنامجاً سياسياً هو التوحيد الوطني، هو صناعة وطن جامع. وحين تقيم نظام المؤسسات السياسية، وتكرّس الحريات العامة وتحمي حقوق الإنسان، وتضع التشريعات الكافلة للحياة الديموقراطية وللمشاركة السياسية، فهي تنهض ببرنامج سياسي (ديموقراطي)، لكنها في الوقت عينه تفتح أمام التنمية وتعظيم فرص التقدم إمكانات كبيرة تسمح بالمزيد من الاندماج الاجتماعي الذي يصنع الأوطان والأمم. في الحالين، تنشأ الأسباب الفعلية الدافعة نحو هدف التوحيد الوطني بقوة بالإرادة العامة الجامعة لا بعنف الدولة أو أجهزتها القمعية.[c1]* كاتب مغربي[/c]
|
فكر
الأوطان والأمم ليست حقائق قبْلية
أخبار متعلقة