صدر مؤخراً مجلد في أكثر من سبعمائة صفحة بعنوان « رجال وشؤون وذكريات» يحوي مذكرات رجل التنوير اليمني الصحفي المحامي محمد علي لقمان. وكان لقمان قد بدأ نشر هذه المذكرات في نوفمبر 1960م وربما انتهى منها في 1963م ، ولكن الحلقات السبع والتسعين التي في الكتاب تنتهي في ديسمبر 1962م . فمازالت بعض الحلقات ضائعة. فلقمان كان قد نشر هذه الحلقات باللغة الانكليزية في صحيفة « أيدن كرونكل» أول صحيفة انكليزية مستقلة وكان لقمان صاحبها ورئيس تحريرها بل وأعاد نشرها بالعربية في صحيفة فتاة الجزيرة أول صحيفة يمنية مستقلة، وكان لقمان قد أنشأها في أول يناير 1940م وكان رئيساً لتحريرها.توفي لقمان في أثناء رحلة الحج ودفن بمكة المكرمة في مارس 1966م فتولى ابنه فاروق لقمان مواصلة إصدار صحفه حتى جاء الاستقلال في نوفمبر 1967م ومنعت الصحافة المستقلة تحت حكم الحزب الواحد الشمولي وامتدت يد العبث لمكاتب فتاة الجزيرة فضاعت أو أتلفت كثير من مجلدات الصحيفتين . وعندما قرر المهندس ماهر نجل محمد علي لقمان إعادة إصدار مؤلفات والده العديدة ومن ضمنها هذه المذكرات عهد بهذا العمل الكبير إلى الأستاذ المعروف الشاعر الدكتور احمد علي الهمداني نائب رئيس جامعة عدن لشؤون الدراسات العليا والبحث العلمي. وبما أن الهمداني لا يجيد الانكليزية فقد عهد إلى الأستاذ محمد جعفر محمد ناصر لترجمة الحلقات الانكليزية والى الأستاذ الشاعر شوقي شفيق بمراجعتها وصدر الكتاب باللغتين. وراجعت د.شيرين ياسين يار النص الانكليزي واذكر أنني كنت قد قرأت عدداً من هذه الحلقات عندما كنت ادرس الهندسة في أوائل الستينيات في جامعة إبردين باسكوتلندا وكان لقمان يبعث بإعداد صحفه إلى ابنه خالي الدكتور حافظ رحمه الله والذي كان يدرس الطب في الجامعة نفسها ويعطيني تلك الأعداد بعد قراءتها . بل اذكر إنني تسلمت من جدي محمد علي لقمان رسالة ذات يوم وأنا في الجامعة يخبرني بأنه نجا من صعقة كهربائية عند لمس الثلاجة وقرر أن يكتب لكل أولاده وأحفاده الذين يدرسون في الخارج . وكان الخطاب يحوي خلاصة لبعض تأملاته في الحياة، ومع الأسف ضاعت تلك الرسالة مني كما ضاعت رسائل والدي القيمة وكانت رسائل والدي محمد عبده غانم كثيراً ما تحوي تعليقاته على محاولاتي الشعرية وقصائدي الأولى. والحقيقة أنني قرأت بعض المذكرات مترجمة إلى العربية ولكنني فضلت أن اقرأها كلها بالانكليزية لأنني وجدت فيها شخصية جدي وأسلوبه وكان دائماً من اقرب المقربين إلى قلبي واحياناً دخلت معه في بعض الحوارات الأدبية عن الشعر والرواية . تمتد فترة المذكرات منذ كان صبياً في المدرسة عام 1907م وحتى أوائل الخمسينيات واظننا سنجد في الحلقات الضائعة تغطية لفترة ربما تمتد إلى أوساط الخمسينيات. المذكرات ممتعة للغاية خصوصاً بالنسبة لشخص مثلي عاصر بعض الأحداث وعرف مؤلف المذكرات وبعض الشخصيات المذكورة وتؤكد الأحداث ما كنت اعرفه عن الشجاعة الكبيرة التي كان يتحلى بها لقمان سواء الشجاعة الأدبية أو الشجاعة الشخصية ووقوفه مع الحق وقضايا الأمة وقضايا المظلومين ولو عرض نفسه للسخط وتهديد المستعمر. كما يتضح من المذكرات اهتمام لقمان بقضية التعليم اهتماماً كبيراً ليس فقط في عدن ولكن في أي مكان عمل فيه كالصومال مثلاً وقد لاحقه البريطانيون وأخرجوه من العمل في التعليم على الرغم من أنه كان أول عدني ينال الثانوية العامة من خلال امتحانات كامبردج وذلك لأنه انتقد التعليم في عدن من خلال مقالة أو كتيب نشره بالإنكليزية في الهند تحت أسم مستعار وتحت عنوان (هل هذه قصاصة من ورق).وتكشف المذكرات العلاقة الحميمة التي كونها لقمان مع عدد كبير من المفكرين والسياسيين الذين كانوا يسعون لتحرير بلدانهم أمثال المهاتما غاندي وعبدالعزيز الثعالبي ومحمد علي الطاهر والزبيري ونعمان وعلي أحمد باكثير وغيرهم وكان لقمان لا يتردد في مراسلة كبار الملوك والزعماء فكاتب الملك غازي وأقنعه بإعطاء منح دراسية لعدد من أبناء عدن منهم ابن محمد علي لقمان الأستاذ عبدالرحيم رحمه الله وكاتب عبدالرحمن عزام الذي أصبح أميناً عاماً للجامعة العربية والأمير شكيب أرسلان الذي كتب في صحيفة الشورى الفلسطينية التي كانت يحررها المجاهد محمد علي الطاهر مقالاً تحت عنوان (لا غرابة ! فإنه لقمان) فأصبح لقمان شخصية تنويرية معروفة في البلدان العربية. وقد كتب شكيب أرسلان فيما بعد مقدمة لكتاب لقمان (بماذا تقدم الغربيون).ويتحدث لقمان عن علاقته برجل الأعمال الشهير في عدن وشرق أفريقيا الفرنسي الأصل طوني بس وقد عمل لقمان مديراً لأعماله في الصومال كما يذكر علاقته الحميمة بالدكتور عطا حسين مساعد ضابط المعارف في عدن من 1921 إلى 1929 وقال عنه إنه كان:(أول تربوي مخلص متحمس لتأسيس نظام تعليمي لعدن بغية إعداد الأولاد للدراسات العليا، كان ذا قدرة أدبية استثنائية وخلال خدمته أعد الكثير من الأولاد الأذكياء لامتحانات كمبردج بما فيهم السيد محمد عبده غانم CBE وهو الآن مدير المعارف (وقد أخبرني والدي د/ محمد عبده غانم رحمه الله ما يؤكد مثل هذا الكلام وبفضل تشجيع عطا حسن للدراسة الجامعية فكان قد ذهب إلى جدي السيد عبده غانم لإقناعه بضرورة أن يواصل والدي الدراسة لامتلاكه ذكاء ومواهب غير عادية .وتزوج والدي فيما بعد ابنة لقمان والدتي.ويذكر لقمان والده خان بهادر علي إبراهيم لقمان الذي كان يعمل مسؤولاً إدارياً في مكتب الإقامة والذي أصبح أسمه لاحقاً عند كتابة المذكرات السكرتارية (أي ما يعادل اليوم مكتب رئاسة الوزارة) وكان والد لقمان من كبار المترجمين أيضاً في مكتب الإقامة.ويتحدث لقمان عن علاقته بكبار شخصيات عدن وعن علاقته بسلاطين المحميات خصوصاً في لحج منذ السلطان عبدالكريم فضل وكانت العلاقات تختلف من سلطان إلى آخر بل منع مرة من دخول لحج حيث كانت زوجته الثانية أم فضل مريضة فتوفيت قبل أن يراها. كما يتحدث عن علاقته بإمام اليمن وخصوصاً السيف أحمد (ولاحقاً الإمام أحمد) الذي قابله أثناء زيارته كولي عهد لعدن عام 1946م وحاول أن يثني لقمان عن مساعدته للأحرار اليمنيين في عدن حيث كان أول من فتح لهم صحيفته (فتاة الجزيرة) ليعرضوا وجهة نظرهم عن الظلم والتخلف في اليمن ودرب الشيخ أحمد محمد نعمان في العمل الصحفي الذي مكن الأحرار من إنشاء صحيفتهم (صوت اليمن) كما ضمن لقمان الأحرار شخصياً لدى حاكم عدن وساعدهم في تكوين حزبهم حزب الأحرار اليمني في التواهي في يونيو 1944 وساعدهم في كتابة دستور الحزب.بل إن لقمان ساعد ثورة 1948م في كتابة الدستور اليمني وكاد أن يدفع حياته ثمناً لذلك فقد سافر إلى صنعاء إثر ثورة 1948م وأستقبله الإمام الجديد عبدالله الوزير استقبال الأبطال وأطلق عليه لقب (فتى الجزيرة) وقال له إن أراضي اسلافه موجودة في (قاع لقمان) في اليمن . ولكن الانقلاب فشل ويقول لقمان (إن الاختلافات التافهة بين أعضاء الوزارة كلفتهم رؤوسهم . (وكان القائد العراقي القائد العسكري للثورة جميل جمال قد شكا إلى لقمان هذه الاختلافات.وقال الإمام عبدالله الوزير لقمان إنه ينوي تكليفه بمنصب وزاري. وكان لقمان قد (ألقى من إذاعة صنعاء خطاباً يدعو فيه سيف الإسلام أحمد إلى أن يترك مكانه ويعلن ولاءه للنظام الجديد. وقد غادر لقمان صنعاء على الطائرة الأثيوبية إلى عدن قبل ثلاثة أيام من فشل الثورة وإعدام وسجن معظم قادتها، ماعدا القاضي الزبيري والفضيل الورتلاني اللذين كانا في السعودية أثناء فشل الثورة أو الانقلاب، فنجا لقمان.ويتحدث لقمان عن جهوده في إنشاء نادي الإصلاح العربي بكريتر ومخيم أبي الطيب وجهوده لجمع التبرعات في أزمات كثيرة مثل انتشار الطاعون في عدن و لجمعية مرضى السل.. الخ. وكان هو الذي قاد مع أعضاء في الجمعية العدنية مثل محمد حسن خليفة وعلي لقمان والصعيدي وآخرين محاولة منع القات في مستعمرة عدن ونجح الأمر لمدة عام كامل وكان سكان عدن يضطرون للذهاب إلى دار سعد خارج حدود المستعمرة “ لتخزين” القات. وقد اشترت حكومة هيلا سلاسي في الحبشة ذمم بعض أعضاء المجلس التشريعي فالغوا قرار المنع بأغلبية بسيطة وعادت آفة القات إلى عدن. ولايزال القات ينخر في اليمن وربما يشكل أعتى مشاكلها الاقتصادية.ويذكر لقمان في مذكراته القائد التركي الشهير سعيد باشا الذي استسلم في نهاية الحرب العالمية الأولى وعاش فترة في عدن ومرّ ذات يوم أمام مكتب لقمان في الشارع الذي يحمل اليوم اسم لقمان وكان الحكام الشموليون قد غيروا اسم الشارع من لقمان إلى اسم أحد الفدائيين من حزبهم كما عرف فترة باسم شارع الصحافة وقبل ذلك “ بالإسبلانيد” ولكن بعد الندوة التي أقامتها جامعة عدن عن لقمان عام 2006م أعيد الاعتبار للقمان وأعيد تسمية الشارع باسمه. ويذكر لقمان تبادله التحية مع سعيد باشا في ذلك الشارع وكان الجنرال في طريقه لصلاة الجمعة في جامع العيدروس وقد عرفت في طفولتي سيدة صومالية كانت زوجة لسعيد باشا في عدن أما الزعيم الهندي المهاتما غاندي فيتناوله لقمان في كثير من مذكراته وكان غاندي يقيم وزناَ كبيراً للقمان وفي إحدى زياراته لعدن سأل حاكم عدن أول ما سأل “ أين صديقي لقمان؟”. وقد أخبرتني والدتي رحمها الله أن والدها أخذها معه وهي فتاة صغيرة إلى أحد الاحتفالات بغاندي وتحدث معها غاندي مداعباً. وكان غاندي ممن شجع لقمان على إنشاء الصحافة ودراسة القانون كما تعرف لقمان معها على الشاعرة الشهيرة ساروجيني نايدو. ويذكر لقمان تسلمه عرضاً من الإمام يحيى لقبول منصب وزاري بتوصية من الأمير شكيب أرسلان والسيد محمد بن عقيل ووصلته رسالة بذلك من القاضي محمد الحجري عالم الأنساب (شقيق القاضي عبدالله الحجري رئيس الوزراء في عهد الثورة) وكان لقمان قد وافق مبدئياً ولكنه تردد لأنه كان يعمل في وظيفة كبيرة في مؤسسة “ البس”. وفي ذلك الأسبوع غرق الأمير محمد ابن الإمام وهو يحاول إنقاذ شاب من الغرق وقد كتب أمير الشعراء أحمد شوقي قصيدة في رثاء الأمير محمد ين يحيى الغريق في الحديدة.ويذكر لقمان وفاة والده عام 1936م ولقمان قد غادر للدراسة في الهند وكانت وصية والده أن يواصل الدراسة كما يذكر وفاة زوجته الأولى أم علي عام 1928م ووفاة زوجته الثانية أم فضل في لحج عام 1935م ووفاة أخيه عبدالمنان مدير أعماله بصدمة كهربائية عام 1930م ووفاة بعض أطفاله أيضاً .وقد تفاجأت عندما وجدت لقمان يذكرني وأشقائي في مذكراته فهو يقول في المذكرة (29) المؤرخة 15 يونيو 1961م: “ وفي الثاني والعشرين من يناير 1922م رزقت بطفلتي الرابعة منيرة زوجة السيد محمد عبده غانم مدير المعارف وأم الستة من الأبناء الأذكياء منهم قيس الطالب في إدنبرة وشهاب طالب الهندسة في أبردين وعزة أول فتاة عدنية تتجه إلى جامعة القديس أندروز في اسكتلندا”. والواقع أن عزة درست الثانوية القسم العالي في سنت أندروز ثم درست معي في جامعة أبردين وكانت أول فتاة يمنية تحصل على شهادة جامعية.لعل المشكلة الرئيسية في هذه المذكرات أنها ليست متسلسلة تاريخاً ومحرر الكتاب آثر أن ينشرها حسب تسلسل تاريخ النشر ما يجعل قراءتها صعبة على من لا يعرف الأحداث الرئيسية.وأخيراً نقرأ في المقدمة لمجرد الكتاب” .. كان تنوير لقمان شاملاً استوعب البنى المختلفة.. واستولى على جوانب الحياة المختلفة من تعليم وثقافة ومن صحافة وتجارة ومن سياسة واقتصاد وغير ذلك مما كان يدخل في حياة الناس. ولابد من الالتفات ونحن نقرأ هذه الحلقات إلى أن لقمان المحامي هو أول من كتب سيرة ذاتية في الأدب اليمني المعاصر وقدم إلى القراء ذكرياته الشخصية والعامة..
|
ثقافة
من مذكرات المحامي محمد علي لقمان
أخبار متعلقة