(اللون في شعر "عبدا لله بن المعتز") من (247هـ / 296هـ)
[c1]* الفن المتأصل فيه منحه خبرة جمالية[/c]يعد (أبن المتعز) الحلقة الأخيرة في سلسلة تجديد الشعر في العصر العباسي الثانيفعلى يده تحول الوصف إلى صور فنية لتجعل منه أستاذ( مدرسة الصورة) حيث شغل النقاد بصور الارستقراطية التي هي صدى لتكوينه ونشأته ففتح بذلك للشعراء آفاقاً جمالية ظلت مثار اهتمام وباعث اقتداء لماحوته من إبداع التصوير وروعة التلوين في مجال (شعر الطبيعة) الذي احتل(ابن المعتز) قمته.. وقد شكل اللون قوام تلك الصور، التي مثلت لوحات فنية خلابة في خمائل الشعر العربي..الفن لحظة نادرة مثلى لتناغم العقل مع المخيلة وامتزاج الشيء بضده: الوهم بالحقيقة/ السكون بالحركة/ المادة بالروح، لإعادة صياغة الواقع الحسي صياغة نوعية، تحشد في ثوابته حياة وتحولات نشأت عن علاقة خاصة وتفاعل نوعي بين الذات وعالمها الطبيعي لتحوله إيقونة جمال، تحقق المتعة وترتقي بالشعور وتخلق فينا وعياً عن ذلك الواقع الذي نجهل أننا لاندركه!! فجمال الطبيعة وان ظل مصدر الهام للفن إلا أن الفن هو من يحول هذا الجمال الطبيعي (المألوف) الى أثارة وإدهاش متجددين بنقله من كينونته المادية إلى عالم الانفعال والشعور حيث تكون الروح وهنا تتجلى طاقة الفن وقدرته على الارتقاء بالأشياء بإكسابها طبيعة جديدة وعلاقات جديدة ذلك لان الفن ينظر إلى الخارج من الدخل ليرتد بالخارج إلى الداخل فالفن كما يقول (هيجل)« إبداع الروح وخلق الوعي ونتاج الحرية وماهو من إنتاج الروح يحمل طابعها ويكون أسمى من الطبيعة .."(1) وذلك ماحاوله (ابن المعتز) إذ أن الفن المتأصل فيه هو من أثرى أحساسه بالجمال بل صيره خبرة جمالية قائمة بذاتها قادرة على تكوين الجمال كأن تجعل من ومضة برقٍ خاطفة شلال نورٍ يغمر الوجود والوجدان:وكأن المجر جدول ماء[c1] *** [/c]نور الأقحوان في جانبيهوكأن الهلال نصف سوارٍ[c1] *** [/c]والثريا كف تشير إليه(2)كما أن تلك الخبرة (البارعة) في تحويل حقائق الواقع إلى إشارات جمالي تتلقفها الروح في عالم مثالي الصورة، هي من أعدت( ابن المعتز) فنياً لاحتضان الطبيعة واكتشاف جمال موجوداتها وبديع ألوانها لتتكشف له روعتها فإذا بشعره لوحات جمال في الطبيعة وحدها فهي مثار تغزله وصومعة تأمله ومحراب تبتله:إما ترى الأرض قد أعطتك زهرتها[c1] *** [/c]مخضرة واكتسى بالنور عاريهافللسماء بكاء في حدائقها[c1] *** [/c]وللرياضً ابتسام في نواحيها(391)ولامكان للشك في أن حس (ابن المعتز) بالجمال الذي وجد تجلياته في الطبيعي ليمارس فن التصوير والتلوين إنما هو حصيلة عوامل عدة أهمها:[c1]اولاً: موهبته (الفن)[/c]الفن المتأصل في طبيعة (ابن المعتز) كان له القدح المعلا في إخصاب وإثراء وعيه الجمالي، والانطلاق به إلى مسارب جمال متنوعة ربما لايدركها آخرون إلا أنها ليست بخافية عن (ابن المعتز) الذي يحس بالأشياء حساً جمالياً، ويخلق معها علاقات نوعية، ليستشعر جمالها حتى وان غاب عنها الجمال، ويحس بمتعته بخبرة جمالية لايمتلكها سوى أهل الفن الاقحاح:قلبي وثاب الى ذا وذا[c1] *** [/c]ليس يرى شيئاً فيأباهيهيم بالحسن كما ينبغي[c1] *** [/c]ويرحم القبح فيهـواه بالفن اكتسب (ابن المعتز) خبرة جمالية قادرة على تقدير الجمال( يهيم بالحسن كما ينبغي) وصياغة تصور فلسفي عن الجمال، اجتمع فيه أمران:أ-الحسي بطرفيه: (ليس يرى شيئاً فيأباه) فالمثير الجمالي (المدرك) هنا حسي مادي( شيئاً) .. كما أن (الإدراك) حسي حاسة البصر(يرى) يرتبط ويتحقق بكل ماهو حسي مادي.ب-المعنوي بطرفيه: (ويرحم القبح فيهواه) فالمثير الجمالي هنا معنوي لايلتفت الى الشكل (القبح).. والإدراك للجمال شعوري عاطفي أي معنوي(يرحم). وهنا يعطي (ابن المعتز) بعداً وعمقاً لمفهوم الجمال من المادي الظاهر الى العاطفي الباطن(يرحم القبح فيهواه).وبتلك الخبرة المتولدة عن الفن تمكن(ابن المعتز) لا من تجسيد الجمال المحيط به فقط، وإنما ايضاً خلقه في هيئة جديدة وعلاقات جديدة تثير الدهشة وتترك احساساً نوعياً لم نعهده من قبل:إما ترى النرجس المياس يلحظنا[c1] *** [/c]ألحاظ ذي فرح بالعتب مسروركأن أحداقها في حسن صورتها[c1] *** [/c]مداهن التبر في أوراق كافور (الديوان ص199)بل أن(ابن المعتز) بفعل حسه المتميز بالجمال، وتكوينه الفني يصل إلى تبني رؤية جمالية لبنية العالم الحسي، تتوحد فيها مظاهر الطبيعة على اختلاف أشكالها، وتنوع ألوانها، وأجناسها، ليرجعها إلى أصل واحدٍ تلتقي فيه، لتتخلق منه، وتنسب إليه:لاتحقرن صغيرة[c1] *** [/c]ان الجبال من الحصى. (ص34)وبذلك الحس والتكوين الفني تفجرت ايضاً موهبته في الغناء والموسيقى فكان " خبيراً بالنغم حاذقاً في معرفة مزايا المغنين ومحاسنهم وعيوبهم بل انه قد أسهم في الغناء" (3) كذلك تجلى إسهامه في ميدان الموسيقى والغناء بكتابه(الجامع في أحكام الغناء).[c1]ثانياً: نشأته[/c]نشأ (ابن المعتز) في القصور العباسية بـ( سامراء) أيام جده (المتوكل) ثم أبيه (المعتز) تحيط به عزة الملك وأبهته وفخامة الأشياء فكان لتلك النشأة الأثر القوي في بناء شخصيته وصياغة فنه إذ أسست له قاعدة جمالية حسية راقية المرتبة مترعة بانفس وامثل مظاهر الجمال المادي، الذي يثير بجمالية عالية أنواع الإحساسات الإدراكية ليطبع في وعيه مفهوماً لمعنى الجمال وعناصره وفق معايير مثلى اتفقت عليها طبقته الاجتماعية فكان ان ظلت تلك المعايير ماثلة في ذاكرته وتستحضرها مخيلته ليبنى من صورها المادية الفخمة عالمه الشعري الذي هو صدى لتكوينه ونشأته الملكية:كأنما الليمون لما بدا[c1] *** [/c]للعين فـي أوراقه الخضرمداهن من ذهبٍ أطبقت[c1] *** [/c]على زكي المسك والخمر (ص 198)أو في قوله:كان عناقيد الكروم وظلها[c1] *** [/c]كواكب در في سماء زبرجد (ص 160)صور مليكة ماكانت أن تكون دون نشأته الارستقراطية التي أخصبت وعيه الجمالي.. وهذا ما ادركه نقاد عصره وما بعده ومنهم (ابن منظور).في كتابه (نثار الأزهار) واصفاً (ابن المعتز) بأنه " نادر التشبيهات الملكية"[c1]ثالثاً : بيئته[/c]آثرت البيئة المترفة في (ابن المعتز) كشاعر فهي من منحته براعة رسم الصور وأناقة التركيب بما حوته من طبيعة خلابة الجمال.. عطرة الرائحة زهيه اللون .. حريرية الملمس أنيقة المنظر فاترعت مكامن أحساسه بالجمال وصعدت من وتيرة ذائقته الجمالية وضاعفت من فاعلية ادراكاته الحسية (البصر/ السمع/ الذوق/ الشم/ اللمس/ الحركة) مما وهب مخيلته قدرة عجيبة على تكوين صور مثلى للأشياء وتحويل العالم الحسي المألوف إلى عالم مثير الجمال مدهش الصورة ذي طبيعة ارستقراطية ولعل وصف (ابن المعتز) للهلال:انظر إليه كزورقٍ من فضةٍ[c1] *** [/c]قد أثقلته حمولة من عنبر (ص195)وتعليق الشاعر(ابن الرومي) على ذلك البيت بقوله ( .... واغوثاه انه يصف ماعون بيته..)دليل واضح على اثر تلك البيئة المفرطة الجمال في مفهوم الجمال لدى (ابن المعتز) وأثره على صورة الشعرية..بل إن اثر تلك البيئة في إثراء وعي( ابن المعتز) الجمالي لم يقف عند مظاهر العالم الحسي، وإنما امتد ايضاً إلى اللغة والأدب، فكان (ابن المعتز) أول من تناول موضوع المحسنات اللفظية سنة(274هـ) في كتاب مستقل اسماه (البديع) وفيه يتجلى اثر بيئته المترفة ، من خلال اهتمام (ابن المعتز) بجانب الزخرف المادي للألفاظ وتنميق الصورة وزخرفتها لتتألق جمالاً..[c1]رابعاً: ثقافته[/c]مقام(ابن لمعتز) كأمير عباسي/ وفر له مصادر معرفة متميزة فجدته(أم المعتز) نشأت له منذ صغره مكتبة عامرة بقديم المعرفة وجديدها.. كذلك تولى تعليمه نخبة من علماء عصره، منهم (احمد بن سعيد الدمشقي) و(أبو جعفر البلاذري) اللذان لقناه القرآن الكريم والحديث الشريف ومبادئ اللغة واللسانيات والتاريخ، وبعد ذلك اشرف على تعليمه عالمان جليلان هما (المبرد) زعيم علماء البصرة في النحو واللغة و(أبو العباس ثعلب) وكان لهذين العالمين وبخاصة (المبرد) اثر واضح في (ابن المعتز) الذي اتجه بشغف إلى اللغة وعلومها وآدابها ينهل منها حيث « نشأ في الرواية والسماعة.... سمع من صعود صاحب الفراء واخذ عنه اللغة والغريب وعن أعراب فصحاء كانوا يقدمون سر من رأى.." (4) كما أن مجلسه كان مقصد العلماء"و داره مغاثاً لأهل الأدب.. (5).. ومن خلال ماتقدم يتضح أن الثقافة العربية قد غلبت عليه، وقد أظهر لنا (ابن المعتز) جانباً من ثقافته العربية في قوله:أكون أن شئت قساً في خطابته[c1] *** [/c]اوحارثاً وهو يوم الفخر يرتجـلوان أشاء فكزيد في فرائضه[c1] *** [/c]أو مثل نعمان ماضاقت به الحيلأو الخليل عروضياً اخا فطنٍ[c1] *** [/c]أو ألكسائي نحوياً له عللكذلك قرأ (ابن المعتز) الفلسفة وآداب الفرس والهند، اذ كانت من متطلبات عصره الثقافية وجانباً من جوانب التميز والوجاهة الاجتماعية غير ان الفلسفة لم تشغل أمره مثلما شغله درس اللغة العربية وآدابها التي عمقت من النزعة الحسية في شعره .. فالأدب العربي وبخاصة الشعر في مسيرته منذ الجاهلية وحتى عصر (ابن المعتز) كان يطغى عليه الوصف الحسي ..إذاً فحصيلة ثقافة (ابن المعتز) كانت حسية في المقام الأول تلائمت مع مفهوم للجمال وتوافقت مع أسلوبه في تجسيد ذلك الجمال واصلت نزعة الوصف المادي فيه وفعلت من اهتمامه الشديد بزخرف التصوير الحسي القائم في معظمه على لون التشبيه الذي هو أكثر الألوان البلاغية ارتباطاً بفن الوصف الذي ملك (ابن المعتز) قمته:بدر وليل وغصن[c1] *** [/c]وجه وشعر وقدخمر وورد ودر[c1] *** [/c]ريق وثغر وخد [c1]خامساً:الطبيعة[/c]الوضع السياسي المضطرب الذي عاشته الخلافة العباسية وماصدر عن زعاماتها من سياسات هوجاء وغياب الوازع الديني، وما أحاط البلاط العباسي من أجواء التآمر ورواج أسلوب الاغتيالات والتنكيل وماعاناه (ابن المعتز) جراء تلك الأوضاع من أزمة ومن تداعيات نفسية (قلق وخوف وتوجس) وما إصابه من اضطهاد منذ مقتل أبيه ، وما تجرعه من ذل ومهانة:مضوا بخير عمري[c1] *** [/c]وتركوا لي الشراولم اجد اذ ماتوا[c1] *** [/c]لي في الحياة عذرا(ص)191)ـكان سبباً قوياً لان ينأى بنفسه بعيداً عن تلك الأجواء المضطربة الخطرة وينغمس في حياة اللهو عله يدفن أحزانه وينسى أزمته:شربنا بالصغير والكبير[c1] *** [/c]و لم نحفل بأحداث الدهور وقد ركضت بناخيل الملاهي[c1] *** [/c]ووقد طرنا بأجنحة السرور (ص188)وكانت الطبيعة ميداناً لمظاهر لهوه، وأحضانها ملاذاً رحباً ومصدراً ثرياً يشبع احساسة بألوان من الجمال المثير. وبذلك وفرت له الطبيعة الأمن، وحققت له التوازن النفسي والارتواء الجمالي بل انه وجد في الطبيعة شريكاً يقاسمه احزانة:في كل يوم جديد روض[c1] *** [/c]عليه دمع الندى حبيسومأتم في السماء يبكي[c1] *** [/c]والأرض من تحته عروس(ص222)ولانبالغ في قولنا إن (ابن المعتز) قد وصل في علاقته مع الطبيعة إلى مرتبة المشاركة والتوحد ليخلق بتفاعله معها علاقات جديدة بما خلع عليها من صفات إنسانية (تشخيص) أخرجتها من حيزها المعتاد، إلى آفاق جمالية أرحب فكان (ابن المعتز) في مسلكه هذا أول رواد (شعر الطبيعة)، بل وأستاذهم:وقفت بالروض ابكي فقد مشبهه[c1] *** [/c]حتى بكت بدموعي أعين الزهرلولم تعرها جفوني الدمع تسفحه[c1] *** [/c]لرحمتي، لاستعارته من المطر(ص181)لقد شكلت الطبيعة بمظاهرها المختلفة مصدر جمالٍ لابن المعتز ويقظة لوعيه لتجعله في حالة من التأهب الجمالي الراصد لمستويات جمالها وللارتباط بها في علاقة ذات طبيعة جمالية فنية:غدير يرجرج أمواجه[c1] *** [/c]هبوب الرياح ومر الصباإذا الشمس من فوقه أشرقت[c1] *** [/c]توهمته جوشناً مذهباً(ص83)[c1]المصادر والمراجع: [/c]1- د. أميرة حلمي مطر: فلسفة الجمال (إعلامها ومذاهبها) -الهيئة المصرية العامة للكتاب - القاهرة - 2003م ص(148)..2- ديوان(عبدا لله بن المعتز): تحقيق وضبط وتقديم (د.عمر فاروق الطباع) دار الأرقم- بيروت-ص(391)..3-د.مصطفى الشكعة: الشعر والشعراء في العصر العباسي - دار العلم للملايين - بيروت - الطبعة الثالثة - 1979م - ص(784)..* سنتناول الجانب الموسيقي في الحلقة القادمة..4- ابوبكر الصولي: كتاب الأوراق (قسم أشعار أولاد الخلفاء) تحقيق: (ج.هيورث دن تقديم: (د.منير سلطان ) - الهيئة العامة لقصور الثقافة - القاهرة - أغسطس 2004م - ص(107)..5- المكان نفسه...