أضواء
على شريط الرسائل في قاع شاشة قناة ـ المستقلة ـ، طرحت القناة سؤالاً للجمهور العربي تقول صيغته: لمن ستعطي صوتك في انتخابات مفترضة؟ ثم حددت القناة واحداً من الخيارات التالية: الإسلامي السلفي، الإسلامي الإخواني، القومي الناصري، القومي البعثي، الليبرالي العلماني، الليبرالي المعتدل اللاعلماني، ولم تنس القناة أن تضيف خانة للإسلامي الشيعي بصفته، حتى وإن كان أقلياً، إلا أنه جزء من النسيج الاجتماعي والثقافي العربي. يعكس السؤال بكل وضوح لب مشكلة العقل العربي. إنه يصوت للموت والدمار والحروب. للأدلجة والشعارات، لا للبناء والحياة والمستقبل. عقل مهووس بالخطب والعنتريات، وهكذا ظل لقرن من شبه الديموقراطية المزيفة يصوت للحناجر والرموز والجمل الساخنة الملتهبة. يصوت لنبرة الخطاب وطلاوة الصوت لا للميدان والاقتصاد والبناء والمدارس والجامعات والمصانع وفرص الوظيفة ومشاريع التنمية المتوازنة والبحث العلمي. يصوت لبلاغة الخطبة لا للأجندة الحياتية. يصوت للحنين للماضي، لا لآفاق المستقبل. عقل لم يتعظ بالتجربة المريرة مع كل تلك الطوائف بلا استثناء لفصيل أو تيار أو حزب أو جماعة وهنا بعض شوارد الأمثلة: أعطى بعض العرب أصواتهم بأرقام (الشلة) الأصلية والكسرية للبعث العربي الاشتراكي وأنا هنا في حل من أن أسرد كارثة النتيجة.جرب العرب التصويت لأدلجة الليبراليين، علمانيين كانوا أم لم يكونوا في دولة عربية شمال أفريقيا فأصبح هم القوانين أن تصادر حرية المسلم في الزواج أو اختيار المسجد. نصف الجيل المولود في الستينات كان يتغنى ببطولات جمال عبدالناصر رغم أننا ولأربعة عقود من بعده نحاول فقط تحرير الأرض التي تضمنتها معارك الخطب وحشرجة المذيع أحمد سعيد من صوت العرب. أعطى الإخوة في الكويت بركة الصوت لبركات الخطاب السلفي فصار همّ الإخوة من أعضاء البرلمان إقالة هذا الوزير بسبب معرض كتاب ومحاكمة الآخر من أجل مجرد حفلة غنائية والنتيجة أن الكويت بتاريخها التنموي اللامسبوق في العالم العربي باتت في ذيل القائمة الخليجية فمن ذا الذي عاد يسمع عن الكويت في شركات البناء والتنمية أو في ريادتها الإعلامية التي تصدرت ذات يوم قائمة المشروع النهضوي العربي؟أعطت شعوب عربية كثيرة صوتها لتيار الإخوان المسلمين، واليوم تابعوا نتائجهم في السودان والأردن ومصر وهم يرفعون شعار (الإسلام هو الحل) دون أن يضعوا لهذا الشعار الجميل معادلة واحدة في الاقتصاد تنقذ أجيالاً من الجوع والبطالة. أعطى بعض العرب صوتهم للإسلامي الشيعي فإذا به في العراق يتحول إلى شعار للتمييز العرقي والاجتماعي وإلى حلة مجردة للمذهبية الدينية، ناهيك عن دويلة حزب الله التي تحولت إلى فرع للمؤسسة الأم في إيران في قلب الخاصرة العربية.الخلاصة أن العربي يصوت للأدلجة. لمشروع الخطابة لا لقصة المستقبل. يصوت لديموقراطية التهييج والتجييش، لا لأجندة العمل من أجل المستقبل. ولهذا، ومن أجل العقل المغسول لهذه الجماهير العربية صار العمل السياسي لرجل السياسة العربي مجرد بضع مهارات لا تتجاوز القدرة على بناء الجمل وزخرفتها ببعض قوالب الشعر، وبقدرته أيضا على الحوار حد الصراخ على شاشة فضائية. هذه الجماهير مغسولة الدماغ لا تعطي صوتها لمن يتحدث لغة المستقبل. للشخص الذي يطرح تصوراً واقعياً لمأساة التربية والتعليم ويضع حلولاً لكتاتيب الجامعات ومراكز البحث العلمي.لا تعطي الصوت للأفكار التي تتحدث عن معادلات الاقتصاد وحجم الضرائب ونسبة البطالة وتطوير القطاع الخاص ولجم حجم الحكومة وتغلغلها حد السيطرة على مجمل الناتج القومي. لا صوت في هذا العالم العروبي يتحدث في برنامج انتخابي عن أجندته لتوطين التقنية وتسهيل عبور الاستثمار العولمي وتشجيع الشركات العابرة للقارات لبناء قواعد وظيفية وخلق فرص أمام ملايين الشباب العربي الذين اتسعت لهم بطون الأرحام ولم تتسع لهم فرص الحياة في الفيافي والشوارع الفسيحة. لا صوت انتخابي في هذا العالم العربي يتحدث عن أزمة المدن العربية التي تستوطن اليوم 80% من جملة التوزيع الديموغرافي، لأن التنمية المتوازنة ليست في الأجندة طالما كان الصوت الانتخابي من أجل أدلجة يمينية أو يسارية. في أمريكا، اختاروا أجندة الديموقراطي من أجل برنامجها الداخلي الاقتصادي وفي بريطانيا تحولوا إلى حزب العمال كي يحجموا سطوة الشركات العملاقة على نقابات المهن وقطاع الأعمال الصغيرة، وفي فرنسا تحولوا إلى يمين اليسار من أجل إعادة التوازن في بناء التيارات الاجتماعية. هنا، نصوت للشخص من أجل شنبه المحلوق كرمز ليبرالي أو لحيته الطويلة كدلالة إخوانية أو سلفية. نصوت لتفاصيل الوجه ولما كان من السيمياء خارج الجمجمة.[c1]*عن جريدة “الوطن” السعودية[/c]