قراءة تحليلية : نادرة عبد القدوس:تعود إلينا القاصة والصحفية اليمنية زهرة رحمة الله بمجموعة قصصية ثالثة، مصبوغة بألوان أفراح وأتراح الناس البسطاء الذين أنهتكهم هموم الحياة .. وكعادتها تجتهد الكاتبة في استسبار أعماق نفوس هؤلاء المعذبين في الأرض ، فتعبر عن مكنوناتهم بكل صدق وتشاركهم ذرف دموع الفرح والحزن معاً ، وتنقل لنا تفاصيل إيقاع حيواتهم ، فتأخذنا ، مأسورين بأسلوبها الأدبي الغني بالمشاعر والدلالات ، إلى عوالمهم ، نرى ونسمع ونفهم ونفقه .. وسرعان ما ندرك أنها تشبه حيواتنا أيضاً .. هذه هي القاصة الرقيقة زهرة رحمة الله ، كعادتها تترجم أنفاسنا وتتلمس خطواتنا وترصد أفعالنا .. تأتي “ همس القناديل “ في (111) صفحة ، بالحجم الصغير ، بعد ست سنوات من صدور مجموعتها القصصية الثانية “ لا للرجال “ عام 2004م ، في خضم الاحتفاء بصنعاء كعاصمة للثقافة العربية ، وكانت صدرت مجموعتها الأولى “بداية أخرى “ عام 1992م . وقد قامت بطباعة مجموعة همس القناديل مطبعة عبادي (العريقة ) على نفقة الكاتبة . تتميز القاصة زهرة رحمة الله بأنها تدرك تماماً طريقها إلى وجدان القارئ باستخدامها الألفاظ والعبارات المفعمة بالجمال والرونق التي تستهوي القلوب ، وهذا دليل على تمتع الكاتبة بالخبرة الواسعة والعميقة بصناعة الكلمة ، مستمسكة بعناصر الأسلوب الأدبي الثلاثة التي يجب ألا يحيد عنها أي قاص، وهي: الأفكار والعواطف والصور، المرتبطة بعضها ببعض دون أي تجزئة أو انفصام ، وإن كان الفكر والعاطفة أكثر أهمية في العمل الأدبي ، النثري أو الشعري، باعتبارهما عنصرين متمازجين لا يطغى أحدهما على الآخر ، فيتحقق للنص الأدبي جماله . هذا هو الأسلوب الأدبي الفني الرائع الجمال الذي تستخدمه دائماً قاصتنا الرقيقة زهرة، وما نكتشفه في كل مرة منذ صدور مجموعتها الأولى حتى الأخيرة التي بين أيدينا ، أنها تتفوق دوماً على نفسها وتجيء بتقنية جديدة متطورة في كتابة النص الأدبي النثري، وهذا ذكاء من الكاتبة المتميزة، التي لم تتوقف عن كتابة القصة منذ أكثر من ثلاثة عقود ، رغم كثير من التحديات التي واجهتها وتواجهها ، منها النظرة القاصرة في مجتمعنا إلى المرأة القاصة أو الشاعرة، والتقليل من شأنها في نضالها الأدبي وتأصيل قيم هذا النضال ، من أجل غدٍ مشرق للإنسان ، من خلال التعبير عما يجيش في نفسها من أفكار وعواطف ، مثلها مثل الرجل القاص والشاعر . توظف القاصة زهرة رحمة الله الرمزية بإتقان المبدع، وتدع القارئ وحده يسبر أغواره ، فهي تسأل على لسان بطلة قصتها السابعة “ لحظات ضجر “ في سياق مجموعتها القصصية : “ .. وكتبت مقالي الافتتاحي للمجلة عن الآباء الذين يزجون ببناتهم في زيجات بائسة تحت إغراءات المال أو المنصب . وسألت: ألسنا مسلمين وسنة نبينا تأمرنا أن نأخذ إذن البنت قبل تزويجها ؟ ما لنا نؤمن ببعض الكتاب ونعرض عن بعضه؟... فالقاصة هنا لا تذكر ماهية وظيفة بطلة القصة، ولا نعرف غير أنها تهتم بنشر قضايا شئون المرأة في افتتاحياتها لمجلة ما ، ولا ندري هل هي صاحبة المجلة، أم مجرد كاتبة أو صحفية تعمل بها، ولكننا من خلال تعايشنا مع الروح العميقة التي تسكن النص الإبداعي نفهم أنها تتسنم مركزاً قيادياً في المجلة ؛ فافتتاحية المجلة أو الصحيفة لا يكتبها إلا من كان في قيادتها . وفي هذه التقنية الفنية التي استخدمتها القاصة، تذكير لأولي الألباب، بأن المرأة الإعلامية باستطاعتها الوصول إلى مراكز صنع القرار، والاهتمام بقضايا وهموم الناس البسطاء ، وترجمتها عبر افتتاحيات الصحف والمجلات. وتصور لنا القاصة معاناة الصحفية المثقفة المهمومة بقضايا المرأة ومشاكلها الاجتماعية والاقتصادية وما تلاقيه من صدى عند المتلقي، وخاصة من بنات جنسها ، فنقرأ في استهلالية القصة على لسان فتاة تمارس الخطيئة ، جاءت لزيارتها في المكتب :“.اسمعيني ، أنت تكتبين في المجلة ، وقضيتك المرأة . اسمعيني، الخطيئة تشتعل داخلي . النار تقتات روحي....”وعلى الفور نفهم أن حديثاً موجهاً إلى كاتبة ما ، تهتم بقضايا المرأة .. وتسترسل الفتاة في حديثها معترفة بتورطها في الخطيئة وإدمانها لها . وتنصت إليها الصحفية باهتمام دون أن تفارقها دهشتها على هذه الجرأة في سرد قصتها وأسباب قذفها إلى إدمان لعبة الجنس، فنعرف أن السبب هو أبوها الذي زوجها لرجل عجوز وعاجز جنسياً ، وهي التي كانت تحب شاباً من الحي ، وكانت تحلم معه أحلاماً صغيرة . وتقدم لنا القاصة بطلتها، الصحفية ، مواكبة لروح العصر، المتميز بالتطور التقني لوسائل الاتصال الحديث ، وهذه رمزية جديدة تستخدمها القاصة زهرة في توثيقها لروح العصر الحديث، المتميز بثورة المعلومات وما نتج عنها من تطور في وسائل الاتصال ، وذلك من خلال اجتهاد بطلتها بالتواصل مع تلك الفتاة ، الرافضة تماماً التجاوب مع نصائحها لتكف عن هذه الأخلاق النزقة ، عبر الشبكة العنكبوتية، وأن تتلفع بالأمل والتفاؤل ؛ فلعل الغد يحمل واقعاً أجمل لها . إلا أن الفتاة لم تعر اهتماماً مواعظ الصحفية ، ليأتي يوم تقرأ الصحفية فيه خبر وفاة الفتاة في إحدى الصحف بصورة بشعة ، حيث جاء بالخبر أنها وقعت عن سطح منزلها وشخصاً آخر سقط عليها . ويثير الخبر فضول الصحفية ، ما دفعها للذهاب إلى المستشفى لمعرفة الحقيقة ، وهذه رمزية أخرى تستخدمها القاصة ، تشير فيها إلى اهتمام الصحفية بالقضية ، ومحاولة إماطة اللثام عن حقيقتها : “... ذهبتُ للقائه في المستشفى ، كان ابن زوجها ، وعرفت منه أنه كان يضبط الهوائي ، ووجدها خلفه. اقتربتْ منه كثيراً فدفعها ، فسقطت وشدته خلفها”. في قصتها “ همس القناديل “ ، وهو الاسم الذي اختارته عنواناً لمجموعتها القصصية ، تصف لنا القاصة نتائج أحداث 13 يناير الأليمة عام 1986م ، والتي أحدثت شروخاً وتصدعات حادة وعميقة في حياة الناس. وحبكة القصة تشير لنا إلى مدى المأساة التي خلفتها تلك الأحداث ، فبطلتها امرأة عاشت حياة غير متكافئة مع زوج همه وشغله في الاجتماعات الحزبية والرفاق، وعندما اندلعت أحداث يناير المأساوية تلك ، فُقد الزوج ولم تجد له أثراً في عدن وغابت عنها أخباره ، تاركاً إياها بين الشك واليقين ، بين أن يكون ميتاً أو حياً ، مثل كثير من الزوجات والأمهات اللاتي حتى اليوم لايزلن ينتظرن أحبابهن ، لعلهم يرجعون . وهاهي تسجل في مذكراتها عما كانت تعانيه من عدم الاهتمام بها وبابنته ، فهي تحدثه عن استعدادها لإقامة حفل عيد ميلاد ابنتهما الوحيدة “ هدى “ وهو يحدثها عن الرفاق : “ ... لقد اختلفت لغتنا . كنت تتكلم عن الاجتماع والرفاق ، وأنا تسكنني الفرحة للاحتفال ، وأسألك هل نقيم حفلاً كبيراً؟ هل ندعو الأصدقاء ؟ هل أنثر الزينة واعلق البالونات ؟ وارى عينيك منطفئة ، ووجهك مغلقاً ، وصمتك مؤلماً ، وأسأل ماذا هناك ؟ “.ورغم هذه المعاناة من عدم التكافؤ بينهما إلا أنها أحبت رجلها الغائب ، وما زالت تحمل له كل الحب . وفي يوم تفاجئها صديقتها باحتمال وجوده في القاهرة المصرية ، بحسب سماعها ذلك من صديق قديم لها ، يبدأ معها الصراع بين البقاء في عدن بدون زوجها أو السفر للبحث عنه هناك . وفيما تعد نفسها لاتخاذ القرار تعود إلى مفكرتها في ليلة ما وتكتب : “ الرجال كالمدن رجل يعطيك الدفء والأمان ، ورجل يقذفك في بحور الحيرة ويعلقك على حافة الظنون ، ورجل يشعل فيك الحرائق ويقودك إلى الجنون . وأنت ككل الرجال وككل المدن .أعبر كل تلك التلال والسهول ، كل تلك الحرائق والهزائم وآتيك امرأة متواطئة مع الحب وأطرق بابك وأنت سائح في كهوف النسيان “ . وبعد أن تزودها صديقتها بعناوين مختلفة تسافر بطلة القصة إلى مصر تبحث عن زوجها ، حبيبها ، والد ابنتها .. فتعرف من أحد أصدقائه أنه يسكن مع أسرته في أحد أحياء القاهرة . وهنا تعبر القاصة زهرة عن مشاعر المرأة المصدومة من هول المفاجأة؛ فتقول على لسانها : “ .. كانت أحلك لحظات حياتي ، أحرقت فيها كل الجسور وكل الأزمنة والفصول ، قادتني لحظات انفصال وتحدٍ وعزلة . الحياة تفرغني من النبض وتفرغ الكلمات من الدفء، وتغدو التعابير على شفتي موجة صقيع حادة “.. اقتربت الزوجة من شقته ولكنها لم تجرؤ على طرق بابها .. تركت له رسالة تشرح له فيها أنها تبحث عن شريك حياتها وتذكّره بابنته التي تخلّى عنها ، تاركة له الأمر في الاختيار بين البقاء في القاهرة مع أسرته الجديدة أو العودة إلى الوطن، وتنتهي القصة ببحث المرأة عن صديقه لتعطيه الرسالة. هذه النهاية التي اختارتها القاصة لحكاية بطلتها فيها الكثير من الدروس الأخلاقية للنساء اللاتي يعانين إجحاف وهجر أزواجهن لهن دون أي سبب، أولها الصبر على الابتلاء وثانيها احترام الذات بعدم زجها في صدام غير مجدٍ ، ثالثها الكرامة وعزة النفس والحب الصادق الذي يدفع بالمرء إلى تحدي العراقيل والعادات والتقاليد في سبيل المفازة بقلب الحبيب لكن دون التعرض للمهانة . وكانت هذه صورة بطلة القصة ، وهي صورة المرأة القوية التي رسمتها لنا القاصة بأسلوب راقٍ وجميل . إذا كانت الرواية تتوغل في أعماق الزمن ؛ فإن القصة القصيرة تتوغل في أعماق النفس وهذا ما تقوم به القاصة زهرة رحمة الله،فقد حرصت على أن ترتكز مجموعتها على ثلاثة محاور، الأول: العنف ضد المرأة. والمحور الثاني العنف ضد الأطفال وتزويج القاصرات ، أما المحور الثالث فهو عن حق الإنسان في العيش الكريم . أما في قصتها “ السر الرهيب “ فإن القاصة توظف الدلالات الرمزية بكثافة ، من خلال تخيل مخلوقات بهيئات بشرية (رمز للغموض ) يأتون من الفضاء الخارجي إلى الأرض ويقومون بسرقة الأطفال ليجروا تجاربهم العلمية عليهم ، ووجود فيلّة مظلمة، مهجورة (ترمز إلى الرعب والخوف)هي بؤرة هؤلاء الغرباء، يمارسون فيها أعمالهم الغريبة دون أن يراهم أحد ، لكن أي طفل يدخلها لا يخرج منها ، وهذا اللغز الذي يحير الناس في المنطقة وينشر الرعب في قلوبهم ،إلا أن أحد رجال الشرطة ( ويرمز إلى أجهزة الأمن التي تتحمل على عاتقها استتباب الأمن ) يرى كل شيء وتصعقه المفاجأة والحدث اللامعقول، ويبدأ في البحث والتقصي، ولكنه لم يصل إلى الحقيقة ؛ فيقول في خاتمة القصة :” أخيراً لملمت نفسي ورحت أحث الخطى ، كان الظلام يغمر كل شيء . لم أدرِ كم مشيت ، ويقين حاد يسحقني بأنني أحمل سراً رهيباً ينوء كاهلي ولكنني قد لا أجد من يصدقني ..” . ولعل الأخبار المتواترة عن اختفاء أطفال في عدد من المناطق اليمنية ، وعجز السلطة عن معرفة الخاطفين ومصير أولئك الأطفال ، وكأنما هؤلاء الخاطفين كائنات تأتي من الفضاء الخارجي ، استفزت القاصة . وهي القصة التي فازت بها القاصة زهرة رحمة الله في مسابقة الـ بي بي سي عام 2007م التي نشرتها مجلة العربي الكويتية .