لمحة تأريخية موجزة :
[c1]د. يحيى عبد الله الدويله *[/c]لطب التداوي بالأعشاب تأريخ طويل منذ القدم، غير أن القرون الأخيرة للإسلام شهد روحا مبدعة ونظرة علمية وعقلانية أسهمت في تطور وإزدهار هذه المهنة، وتحققت إنجازات كبيرة على إيدي علماء المسلمين أبرزهم؛ الرازي (865-937) وأهم أعماله "الحاوي في علم التداوي"، إبن سيناء (980-1037) وأهم أعماله "القانون في الطب" وإبن البيطار (1197-1248) وأشهر مؤلفاته "الجامع في الأدوية الفردية". وقد جمع علماء طب التداوي بالأعشاب المسلمين بين عدة تخصصات هي الطب، الصيدلة، علم النبات والكيمياء حيث كانوا يقومون بتحديد علاجات الأمراض وتوصيف النباتات الطبية وإجراء التحاليل الكيميائية للمواد الفعالة في هذه النباتات بالإضافة إلى إختبار وتحديد التركيزات المثلى لهذه المواد والتأثيرات الفسيولوجية والجانبية لها. كما طور علماء الطب المسلميين أرقى نظاما طبيا فعالا ، إنتشرت توصياتهم إلى بقاع مختلفة من العالم، حتى بات التداوي بالأعشاب جزءا من ثقافة المجتمع فأطلق عليه الطب الشعبي والذي بلغ مستوى راقي في التعامل مع العمليات المختلفة من جمع، وتحضير وطحن وإستخلاص للنباتات الطبية.[c1]التقدم العلمي للطب الحديث قام على أكتاف إنجازات التراث الطبي الإسلامي بعد إختفاء فئة العلماء والباحثين وإقتصار العمل في المهنة على فئة العشابين والعطارين:[/c] غير أن الحال لم يدم طويلا حيث أن هذا النظام أنهار بإختفاء فئة العلماء والباحثين المشتغليين في هذا المهنة والتي كانت على رأس الهرم المهني، ولم يبقى منهم سوى فئة العشابين (جامعي الأعشاب الطبية) والعطارين (البائعون) والذين حافظوا قدر الإمكان على التراث الطبي بالتوارث أبا عن جد حتى وصل إلينا في صورته الحالية وتفاوت مستوى التعامل مع هذه المهنة من بلاد إلى بلاد ومن قطر إلى آخر، وفي اليمن كان لها وضعها الخاص، حيث طوى مهنة التداوي بالأعشاب النسيان حيث تقلصت عملية التداوي بالأعشاب. على أن هناك حقيقة مفادها أن مايسمى "بالتقدم العلمي للطب الحديث" قد قام على أكتاف التراث الطبي الإسلامي من خلال حركة ترجمة واسعة لمعظم وأهم الأعمال الطبية لرموز علماء المسلمين في هذا المجال، وقد ساعدت الثورة الصناعية على تطوير تقنيات عالية الدقة لطرق الإستخلاص والتنقية الكيميائية للمواد الفعالة للنباتات الطبية، وأدت كفاءة التنقية لهذه المواد إلى وضعها في شكل أقراص، دهانات وحقن لتكون أكثر عملية في النقل والتداول تتناسب مع الإستخدامات الحديثة للأدوية وأطلق عليها " ألأدوية أو المستحضرات الطبية" وبذلك نشأت ما يسمى " بالفجوة بين الطب الشعبي والطب الحديث" وإتسعت المسافة بينهما كما إنقطعت الصلة بينهما.إن الطب الحديث هو شكل متطور للطب الإسلامي القديم وفي جوهرة لا يتعارض أو يختلف معه حيث أنه إمتداد له، لكن ما يميز الطب الحديث إنه إبتدع آليات عمل جديدة بظهور شركات الأدوية الإحتكارية والتي تفننت في إبتداع أساليب تجارية حديثة إستهدفت حماية حقوق الملكية وبراءات الإختراع كما أدخلت السرية والتسميات التجارية وحق الأمتياز والإحتكار بهدف تحقيق أكبر عائد ربحي لها، وتوثقت العلاقة بين هذه الشركات ومراكز البحث العلمي للحصول على نتائج علاجية للأمراض المستعصية والجديدة. وفي المقابل بدأ العلاج التقليدي بالأعشاب يتراجع أمام تطور الطب الحديث والمنافسة القوية لهذه الشركات والتي إكتسحت أدويتها ومستحضراتها الطبية التجارية أسواقنا المحلية، وقد ساعد على ذلك توقف حركة الإبداع في مجال طب التداوي بالأعشاب والذي أقتصر العمل فيه على الفئات الشعبية التي لا تحمل الشهادات الجامعية أو العليا وإستمرت في العمل على نفس الخبرات المتراكمة.[c1]إستعداد وقبول شعبي واسع لتفعيل وتحديث طب التداوي بالأعشاب لدى معظم فئات المجتمع شريطة إجراء عدد من الإصلاحات الجوهرية في مجال المهنة:[/c] لكن هذه الفترة شهدت إنتعاشا وعودة إلى التراث الطبي القديم وتجري حاليا عملية محاولات إستعادة المكانة الحقيقية التي تبؤت فيها هذه المهنة في السابق، ويمكن القول وبشكل عام إن هناك إستعدادا وقبولا شعبيا واسعا لتفعيل وتحديث طب التداوي بالأعشاب لدى معظم فئات المجتمع بمختلف مستوياتهم الفكرية على هاجس ما كان يمثله من قيمة وأسلوب ناجح وغير مكلف، بالإضافة إلى فوائده الكثيرة.لكن علينا أن ننظر للمسألة من جوانبها المختلفة حيث لم تعد الأمور بنفس المكانة السابقة والتي كانت فاعلة في تلك الحقبة الزمنية إذ لا بد من العمل على إدخال آليات عمل جديدة وإجراء عدد من الإصلاحات الجوهرية في مجال المهنة. ولذا فإن مهمتنا الأولى هي تقييم الوضع الراهن للطب الشعبي- التداوي بالأعشاب، والكشف عن المفاهيم والآليات الجديدة وسننظر فيما بعد في دور المؤسسات الحكومية المختلفة في وضع آليات جديدة لتفعيل وتحديث المهنة، وسنحاول في الحالات الثلاث توضيح الآثار التي خلقتها المفاهيم البديلة والخاطئة وبعض الممارسات أيضا والتي شوهت تقديم هذه المهنة بالصورة السليمة. [c1]إرتكاب بعض العطارين سلسة من الأخطاء بسبب عدم المعرفة وغياب المنهاجية الصحيحة في بعض الأحيان وضع مهنة طب التداوي بالأعشاب في مأزق:[/c]إذن دعونا أولا نلقي نظرة على الوضع الراهن والنمط السلوكي للفئات الحالية والتي تمارس عمليا هذه المهنة، وكما أشرت بعد إختفاء فئة العلماء والباحثين في مجال الطب التداوي بالأعشاب، إقتصر الأمر على فيئة العشابين والعطارين والحقيقة هناك نمطان في سلوكيات العطارين؛ الأول: يكتفي بما تم إكتسابه من خبرات متراكمة ولا يتجاوز الأمراض التقليدية أو المعروفة، والثاني: لا يكتفي فقط في توصيل هذه الخبرات المتراكمة ولكن يجتهد ويرغب في إختبار وإكتشاف أنواع عشبية جديدة أيضا يقوم بترويجها في علاج بعض الأمراض المستعصية لم يسبق التعامل معها فحسب بل أيضا لم يتوصل اليها الطب الحديث نفسه، وبسبب حدود المعرفة والقدرة والمؤهلات والإمكانيات التجريبية فأن هذا النمط السلوكي وضع مهنة التداوي بالأعشاب في مأزق.لقد تسنى لنا رصد سلسلسة من الأخطاء في ممارسات العطارين في استخدامات العلاج بالأعشاب بسبب عدم المعرفة أحيانا، أو الخداع والغش كما كما هو جاري في علاجات بعض العيادات الصحية حينما يتم إستغلال ضعف المرضى بهدف الربح والكسب السريع، من هذه الممارسات عدم التمييز بين أجزاء النبات المحتوي على المادة الفعالة للعلاج إوعدم القدرة على تحديد المواد الفعالة والمقادير المطلوبة الكافية للعلاج حيث أن قلة المقادير أو زيادتها يمكن أن تكون له نتائج عكسية. بالإضافة إلى عدم إدراك أن الأعشاب منها ماهو ضار ومنها ماهو سام لذلك يمكن أن يؤدي عدم القدرة على التمييز بينهما إلى كارثة. ليس هذا فحسب بل يتم أحيانا خلط أدوية في الخلطة العشبية مثل المهدئات وأحيانا أدوية تحتوية مكونات أزوتية تؤدي إلى مشكلات في القلب، وأطرف ما في الموضوع أن بعضهم يتخذ من الأعضاء النباتية الشبيهة بالأعضاء التناسلية إفتراض أنها علاج لأمراض الضعف الجنسي. إن معظم العطارين يلجأون إلى الكذب والزيف بهدف إخفاء عدم المعرفة من خلال تضخيم المنافع وأدعاء شمولية العلاج.[c1]طب التداوي بالأعشاب له فوائد عديدة أهمها تجنيب المريض التأثيرات الفسيولوجية الجانبية الناتجة عن إستخدام الأدوية المصنعة كيماويا: [/c]إن مفهوم الطب الشعبي يعني عندما تتحول توصيات العلماء والباحثين إلى قناعة شعبية فلا تكون هناك حاجة إلى طبيب أو وسيط لتحديد المرض والعلاج، كأن يكون المواطن مثلا على دراية أن الكاكاو مفيدا في تخفيض ضغط الدم. لقد أفرزت تطبيقات طب التداوي بالأعشاب وجهتي نظر الأولى تنادي بالعودة إلى العلاج بالأعشاب لما لها من فوائد عديدة أهمها تجنيب المريض التأثيرات الفسيولوجية الناتجة عن إستخدام الأدوية المصنعة كيماويا فنعالج مرض وتظهر أمراضا أخرى، والثانية ترى أن طب التداوي بالأعشاب لم يعد سوى ماضي لا رجعة فيه، حيث لا يمكن التخلي عن إنجازات العصر، وفي رايي أن تخوفات الرأي الثاني تعود إلى التشوهات التي لحقت بالمهنة من جراء عدم المعرفة والتحايل عند تطبيقات طب التداوي بالأعشاب. لكننا نجد أنفسنا أمام ثلاث حالات: هناك أمراض تقليدية مألوفة وعلاجها إيضا معروف مثل الإسهال، الإمساك، الزكام، الحمى وغيرها، والحالة الثانية: أمراض مستعصية وهي أيضا إما معروفة العلاج أو أمراض لم يتم التوصل بعد إلى علاج حتى يومنا هذا، والحالة الثالثة هي ظهور أمراض جديدة لم يتم التعرف على مسبباتها ولم يكتشف علاجها. لذلك يقوم العمل البحثي على السرية حيث تقوم مراكز البحوث العلمية بإجراء إختبارات لعدد من العقاقير وفقا لأسس علمية ومنطقية. [c1]الأخلاقيات والقيم الإسلامية لا تسمح باستخدام الإنجازات الطبية كوسيلة تجارية بل تجعله واجب على كل مسلم قادر:[/c] والواقع إن الحالة الأولى تعتمد على التراكم المعرفي المتوارث، ولا ضرر في ممارسته على الصعيد الشعبي وتحديدا عندما تتحول مخرجات الطب إلى ثقافة فاعلة للمجتمع، وتصبح الخبرة والتراكم المعرفي تقليدا وواقعا يتم إكتسابه بسرعة. ولكن الأمر يختلف بالنسبة للحالات الأخرى والتي لم يتوصل العلم نفسة إلى نتائج حاسمة، وبالتالي لا أحد يريد أن يبدو ساذجا أو أحمقا لاننا نخدع أنفسنا إذا ما أعلن أحدهم عن إمتلاكه توليفة عشبية لعلاج عدد من الحالات المستعصية كالسرطان والأيدز وأمراض القلب والسكري. فيصدقه الكثيرين وخصوصا أولئك الذين ليست لديهم خيارات علاجية أخرى أو بسبب عدم القدرة على دفع تكاليف العلاج أو أن المرض نفسه لا علاج له وليس أمامهم ملاذ سوى اللجؤ إلى أولئك المدعين بإمتلاكهم العلاج الصائب والشامل.ويستغل الكثيرين موقعهم الديني لما يمثله من جواز مرور لدى الفئات الشعبية في إدعاء إكتشاف علاجات ذات قدرة في التغلب على الأمراض المستعصية، ونحن لا نستطيع أن نقف ضد إي محاولات من هذا القبيل طالما لا توجد ضوابط وآليات تقفهم عند حدهم. لكن في الوقت نفسه تواجهنا في هذه المسألة عقبة مهمة حيث أن أولئك يعربون عن مخاوفهم من التعدي على حقوق الملكية الفكرية حيث أن البلد تفتقر إلى وجود آليات إقرار التراكيب الدوائية الجديدة، ونحن في ذلك نؤيدهم أشد التأييد ومقتنعين إلى أن الآوان قد حان في تنظيم آليات العمل في هذه المهنة النبيلة، بالرغم من أن الأخلاقيات والقيم الإسلامية لا تسمح باستخدام الإنجازات الطبية كوسيلة تجارية بل تجعله واجب على كل مسلم قادر.وعليه فأن من يدعي بإمتلاكة إي إكتشاف طبي أن يجعله في خدمة المجتمع، بالرغم من قناعتنا بإستحالة الوصول إلى نتائج حاسمة في علاج الأمراض المستعصية ما لم تكون ثمرة جهود أبحاث معملية، وهي الحلقة الأولى تتبعها سلسلة من الإجراءاءت أكثرها تعقيدا الرغبة في إحتكاره وأسهلها عندما يكون الهدف صحة المجتمع. ولتخرج المهنة من إطارها الضيق ولتبقي إخلاقيات ومضمون الإسلام القائم على إستبعاد مبدأ الكسب والإستغلال بدلا من السعي نحو مجتمع سليم، صحيح أن التجارة حق مشروع لكن حينما يتجاوز الأمر إلى حد المتاجرة بأرواح الناس يكون ذلك على حساب قيم وأخلاقيات الإسلام.* باحث زراعي - فسيولوجي نباتمحطة أبحاث إقليم المرتفعات الجنوبية - تعز