نقلت وكالة “رويترز” نبأ قالت فيه إن ألمانيا “تسعى إلى تنشئة جيل جديد من العلماء من أمثال آينشتاين لاستعادة أمجاد علمية جاءت بها إلى العالم مثل عقار الأسبرين”. إن قصة عقار الأسبرين لم تبدأ في ألمانيا، ولكنها انتهت في ألمانيا. إنها قصة التواصل الحضاري الذي لا يميّز بين شعب وآخر، ولا يقف أمام حدود دول وقارات. ففي المشرق العربي بعثت الحضارة اليونانية من مرقدها بعد أن دفنت في غياهب النسيان والجهل في أوروبا. وكان الخلفاء العباسيون يدفعون ثمن الكتاب المترجم ما يعادل وزنه ذهباً. وكان أحد أهم هذه الكتب للعالِم اليوناني إيبوغرات “إبوقراط”. فقد ذكر في كتاب طبي وضعه في عام 400 قبل الميلاد، أن مضغ أوراق شجرة الصفصاف يخفف الشعور بالألم. وبعد أن جرب اكتشافه على نفسه، سجل ذلك في كتابه. وصل هذا الكتاب إلى العرب. وكان واحداً من الكتب التي ترجمت إلى العربية. توقف العالِم العربي أبو الحسن الطبري أمام النص الذي يتعلق بأوراق شجرة الصفصاف. فوجد أن الشجرة معروفة ومنتشرة جداً. وأثبتت التجارب التي أجراها بنفسه وعلى نفسه صحة ما سجّله إيبوغرات.بعد ذلك أضاف علماء مسلمون آخرون أمثال الرازي وابن سينا وابن رشد دراسات أكثر تفصيلاً حول هذا الموضوع، ونشروا نتائج دراساتهم في كتبهم الطبية التي كانت متداولة على نطاق واسع في جامعات قرطبة والزهراء وإشبيلية بالأندلس. ومن هناك انتقلت هذه الكتب العربية في القرن الثاني عشر إلى الجامعات الأوروبية. وكانت أساس الدراسات الطبية في بريطانيا وفرنسا وإيطاليا. في عام 1763 اكتشف عالِم بريطاني هو القس لستون أن أوراق شجرة الصفصاف لا تخفف الألم فقط، ولكنها تشفي من ارتفاع الحرارة أيضاً. وفي عام 1853 أرسى العالِم الفرنسي شارل غيرهارد القاعدة الكيمائية الأولى لإنتاج علاج مستخرج من أوراق هذه الشجرة. وفي عام 1897 عمل العالِم الألماني فيليكس هوفمان على إنتاج “حبة” مستخرجة من أوراق شجرة الصفصاف، لمعالجة الألم والحمى معاً، فكانت حبة الأسبرين. هذه الحبة التي ينتج منها سنوياً حوالي 50 ألف طن، والتي تستخدم للوقاية من تخثر الدم وسرطان القولون أيضاً. ومن خلال سلّم التبادل المعرفي استطاع العلم أن يرتفع إلى المستوى الذي مكّنه من التوصل إلى الكشف عن أحد أسرار الطبيعة في توفير الدواء للإنسان. وهذا ما يطلق عليه الفيلسوف الفرنسي روجيه غارودي “السيمفونية البشرية”. طبعاً لم تنطلق مسيرة “حبة الأسبرين” من فراغ. لقد انطلقت من بؤرة حضارية أصيلة إلى أن وصلت إلى ما وصلت إليه في العصر الحاضر. “تصوّروا مدينة نيويورك اليوم بكل ما فيها من مبانٍ وساحات ومن صروح عمرانية حديثة. وتصوّروا قرية صغيرة من قرى ريف المكسيك المحرومة من الكهرباء ومياه الشفة والمجاري الصحية. إن المقارنة بين الصورتين تعطي فكرة عن المقارنة بين مدينة الزهراء الأندلسية وأي مدينة أوروبية معاصرة لها مثل لندن وباريس وروما. فالزهراء كانت في القرن العاشر مثل نيويورك اليوم. وكانت تلك المدن الأوروبية مثل قرى الريف المكسيكي”!!. هذا الكلام هو لعالِم الآثار الإسباني أنطونيو فاليجو المسؤول عن عملية كشف المعالم التاريخية للمدينة الإسلامية التي شيدها المسلمون في القرن العاشر بالقرب من مدينة قرطبة عاصمة المملكة الأندلسية في ذلك الوقت. كانت المدن الأندلسية جميعها مضاءة الشوارع، وكانت المياه الصالحة للشرب تصل إلى كل بيت. وكانت هناك مجارٍ صحية. وكانت الطرق مرصوفة بالحجارة. والأرصفة مغروسة بأشجار البرتقال. وكانت الزهراء درّة المدن الأندلسية جميعها.كان يوجد في العاصمة قرطبة وحدها سبعون مكتبة عامة في الوقت الذي كان الكتاب تحفة نادرة في معظم مدن أوروبا. وكانت كبرى المكتبات تحتوي على 400 ألف كتاب علمي في الرياضيات وعلم الفضاء والطب والفلسفة والأدب. بعضها لعلماء عرب وبعضها الآخر مترجم إلى العربية عن اليونانية. ولكن في إطار التنافس العربي- العربي حول أيهما تكون عاصمة الخلافة قرطبة أم بغداد، أنشأ الخليفة عبدالله الثالث في عام 940م مدينة الزهراء على مسافة قصيرة (5 كيلومترات) من قرطبة لتكون في تخطيطها وفي عمارتها وفي بيوتات العلم فيها مركز إشعاع علمي وحضاري. وكان سقوطها بداية لسقوط الحضارة الإسلامية الأندلسية التي استمرت 800 عام وانتهت بسقوط غرناطة في عام 1492. ظلت مدينة الزهراء مطمورة حتى اكتشفت بعض آثارها في عام 1911. ولكن حتى الآن لا يزال 90 في المئة منها تحت الأنقاض. ويعتقد علماء الآثار أن مجموعة من البنايات الحديثة قامت فوق أجزاء واسعة من هذه المدينة التاريخية والنادرة التي يشبهونها بمدينة فرساي في العهد الذهبي للملكية الفرنسية. بعد سقوط غرناطة هاجر من نجا من العلماء المسلمين إلى شمال أفريقيا والمشرق العربي. وترافقت هجرتهم مع قيام منارات علمية حضارية في هذه المناطق. كانت تمبكتو -في مالي اليوم- واحدة من تلك المنارات. فقد عُثر مؤخراً في كهوف تطمرها الرمال وفي بقايا بيوت مصنوعة من الطمي والوحل، على حوالي نصف مليون كتاب ومخطوط يعود تاريخ بعضها إلى أكثر من ألف عام. وكلها باللغة العربية!!. وتتناول هذه الكتب إلى جانب الشؤون الدينية، مختلف أنواع علوم الحساب والفلك والطب والفلسفة والشعر والأدب. لقد ترجم المثقفون العرب الآثار الفكرية والأدبية والعلمية للعلماء الأفارقة التي كتبوها بلغاتهم المحلية، وحفظوا بذلك التراث الأفريقي- كما فعلوا مع التراث اليوناني. ولكن الموجات الاستعمارية التي توالت على أفريقيا أدت إلى تدمير هذا التراث، وإلى طمر ما بقي منه تحت الرمال.لقد بلغ الازدهار العلمي في تمبكتو أوجه في القرنين الخامس عشر والسادس عشر. وفي ذلك الوقت كان عدد سكان المدينة يزيد على مئة ألف، أي أكبر من معظم الحواضر الأوروبية في ذلك الوقت. وكانت تشكل جسر تواصل واتصال بين شمال أفريقيا وجنوبها، وبين شرقها وغربها. ويذكر المؤرخون أنه عندما تعرضت تمبكتو في أواخر القرن السادس عشر إلى اجتياح عسكري مغربي، حاول علماؤها رد الاجتياح بالتي هي أحسن (بالسياسة). فاجتمعوا إلى قائد الجيش المغربي وقالوا له: لا يوجد في القرآن الكريم أي نصّ يسمح لقوات إسلامية باجتياح مجتمع مسلم والهيمنة عليه بالقوة. ربما قالوا ذلك عن ضعف، ولكن من الثابت أن الثقافة الإسلامية في تمبكتو كانت في ذلك الوقت ثقافة اعتدال وانفتاح وسماحة، وهو ما تؤكده المخطوطات الكثيرة التي تم العثور عليها، ومن بينها مخطوطات يهودية.فقد اتخذ اليهود من تمبكتو -كما اتخذوا من الحواضر الإسلامية العديدة الأخرى (غرناطة، دمشق، بغداد، القاهرة، اسطنبول)- واحات آمنة لهم، حتى أنهم أقاموا فيها كنيساً ظل قائماً حتى القرن التاسع عشر، وقد أزال معالمه المستعمرون الأوروبيون، في ذروة موجة اللاسامية التي كانت تعصف في ذلك الوقت بالمجتمعات الأوروبية المختلفة. من أنتج عقلاً مثل ابن سينا أو الخوارزمي يستطيع أن يعيد إنتاجه أيضاً. المهم أن تتوفر الإرادة، والإمكانات، فلا الإبداع وراثي ولا التخلّف. ومن هنا، فإن الحضارة ليست تصارعاً بل هي تلاقح وتكامل معرفي يدفع بالإنسانية كلها قدماً إلى الأمام. إنها نسيج مصنوع من خيوط متنوعة، هي خيوط الثقافات المتعددة في العالم كله. أما “الإلغائية” التي تدعو إلى الصدام الحضاري وتفلسفه، فهي مجرد تعبير عن غطرسة استعدائية لعبت في السابق، كما تلعب اليوم، دوراً تشويهياً وتعطيلياً لمسيرة الحضارة الإنسانية. غير أن المشكلة لا تقف هنا. فألمانيا مثلاً التي قررت الاهتمام بإعادة إنتاج عقول مبدعة أمثال آينشتاين لتقديم أمجاد علمية إلى العالم مثل عقار الأسبرين، تقدم درساً إلى العالم العربي (والإسلامي) الذي يتخلف عن ركب الحضارة بسبب عدم اهتمامه بهذه العقول، وبسبب عدم إنفاقه على البحث العلمي، خلافاً لما كان عليه الأمر في السابق. إن من أنتج عقلاً مثل آينشتاين. يستطيع أن يعيد إنتاجه مرة جديدة. ومن أنتج عقلاً مثل ابن سينا أو الخوارزمي يستطيع أن يعيد إنتاجه أيضاً. المهم أن تتوفر الإرادة. والإمكانات. فلا الإبداع وراثي ولا التخلّف.[c1]* كاتب لبناني .[/c]
|
فكر
التخلف العربي... ليس وراثياً!
أخبار متعلقة