شفاء منصركلما حلّت ذكرى يوم (الجلاء) تنهمر في رأسي الأسئلة وتجتاحني الحماسة العارمة. لمعرفة كيف بدت صورة (عدن) في ذلك اليوم العابق بحياة جديدة وروح جديدة، وآخر محتل أجنبي يرحل من على أرضنا وتنسحب جحافله من حدود بحرنا وسمائنا من حياتنا كلها..؟! فقد كنَّا صغاراً على أن نفهم ماذا تعني حكاية الجلاء، لكنّ يخيل إليّ إنني شهدت ذلك النهار بأحاسيس ومشاعر غامضة، غير واضحة ومشوشة، محاطاً بما يشبه شلالات الضياء، وابتهاجات الأعياد الباهرة.. فمن تراه استطاع أن يرسم خطوط تلك اللوحة لنهار (عدن) في ذلك اليوم الزاهي الذي تلوّنت آفاقه بالبهاء والسناء وانمحت من على جبينه ألوان القتامة والحزن التي خلفتها عصور الطغيان وعبودية الاحتلال الأجنبي إلى الأبد ..؟؟مَنْ تراهُ استطاع أن يرسم الأفق الذي أضاءت فيه شمس (الجنوب) لأول مرة ساطعة متوهجة (شمس الرجال والبنادق معاً) حينما أجبرنا شمس الإمبراطورية على الغروب؟؟كيف تراه كان لون الفجر في ذلك النهار السعيد، ورائحة الهواء والتراب، وبريق النجوم، ولون أزهار الحدائق وتضاريس الأرض وصخور الجبال، وحجارة الشوارع.. كل تلك الأشياء الحميمة التي طالما كانت باهتة كئيبة في زمن الاحتلال كيف بدت في أعين الناس في ذلك النهار؟هل عادت إليها ألوان الحياة الزاهية وبهائها، كما يُعيد المطر الخضرة للأرض المجدبة، وكما تـُعيد السيول الهادرة للصخور والجبال ميلاد الجداول؟؟كيف كان بريق أعين الرجال والنساء حينما سمعوا بالخبر الذي طالما انتظروه (129) عاماً؟.وكيف كانت مشاعرهم حينما تحرروا لأول مرة من أغلال وقيود السجن الكبير الذي اعتقلهم وراء قضبانه الإنجليز ما يقارب قرناً ونيف؟ كيف ركضوا في الشوارع ليعبروا عن فرحهم.. الشوارع التي صارت ملكاً لهم؟كيف تبادلوا التهاني في ذلك اليوم لأول مرة، وبكوا من الفرح لأول مرة؟ وصرخوا ملء حناجرهم (المجد للوطن) دون خوف أو تحفظ لأول مرة؟كيف مارسوا خصوصيتهم في الشوارع، المقاهي والجوامع، و.. من دون أن يُصادر حريتهم أحد لأول مرة؟؟كيف بدت عدن من دون عساكر الإنجليز، وعملاء الإنجليز وكلاب الإنجليز لأول مره..؟كيف شعر المناضلون الأبطال حينما جلدهم وجع الأماكن التي تحمل تواقيع دماء رفاقهم الشهداء الذين صنعوا رعد ما قبل العاصفة، وغيَّروا وجه الوطن لأول مرة؟كيف بدا نهار (عدن) يوم الجلاء من دون ضجيج الانفجارات ومطر الرصاص الذي كان معزوفة الجنوب الدائمة لأول مرة ؟؟برأيي من غير الشعر باستطاعته أن يقدِّم لنا تلك الشهادة الصادقة للصورة التي بدت عليها (عدن والجنوب كله)، يوم الجلاء العظيم، من غير الشعب بإمكانه أن يتولى تلك المهمة النبيلة بما يملكه من طاقة مشحونة بالحب والثورة والحزن والتمرد والغضب ((أليس الشعراء هم حافظوا ذاكرة الشعوب ومسجلو أمجادها من أسفار الخلود)).نعم.. لقد كان الشعراء روح الثورة وشعلتها المتوقدة طليعتها وقادتها الذين صمدوا لعنف المجابهة وحملوا نبوءة الثورة الآتية وعبروا بصدق وحرارة وروح وثابة متمردة عن أحلام وتطلعات الناس للحرية والخلاص والغد الأفضل والأجمل.ولست أبالغ إن قلت إنّ أجمل ما تركه هؤلاء الشعراء الفرسان من إرثٍ شعري يتمثل في القصائد الوطنية التي ظلت محتفظة بروحها الوطنية الوثابة حتى هذه اللحظة وكانت ((بمنزلة ملاحم نابضة بما يعتمل في نفوس أبناء اليمن من حقدٍ وثورة على المستعمر)) والقائمة طويلة الزبيري والبردوني، محمد سعيد جرادة، إدريس حنبلة، لقمان وغانم، لطفي جعفر أمان.. ولكنني اكتفي في هذه الإلمامة بتقديم قصيدة (بلادي حرة) للشاعر الراحل ((لطفي جعفر أمان)) التي تـُعد من أجمل قصائده الوطنية التي نظمها بعد خروج المستعمر من الجنوب المحتل والقصيدة المذكورة في تقديري من القصائد البديعة التي قدّمت شهادة صادقة للمشهد الجنوبي في يوم الجلاء العظيم.. (متوهجاً بالنصر.. طافحاً بالضياء الباهر) :على أرضنا .. بعد طول الكفاحتجلّى الصباح .. لأول مرةوطار الفضاء طليقاً رحيباًبأجنحة النور ينساب ثرهوقبلت الشمس سُمر الحياةوقد عقدوا النصر من بعد ثورهوغنى لنا مهرجان الزمانبأعياد وحدتنا المستقرهوأقبل يزهو ربيع الخلودوموكب ثورتنا الضخم إثرهتزين إكليله ألف زهرهوينشر من دمنا الحر عطرهويرسم فوق اللواء الحقوقحروفاً تضيء ... لأول مره :بلادي حره تحرر شعبي .. ففي كل بيتٍ ترف نجوم.. ويورق بدروفوق شواطئنا الراقصاتمع النور.. فاض من الخلد فجروضم مراعينا والحقولجناح غمير العبير أغروحتى الشياه تكاد تطيروتشدو بحرية .. لا تقروحتى الصحاري كأن الربيعحواها. وزينها ... فهي خضرفضائي حُر .. وطيري حُرأجل قد صحونا لأول مرهلنحيا الحياة .. لأول مرهبلادي حره ..
|
ثقافة
لأول مرة .. بلادي حرة
أخبار متعلقة