أضواء
إنْ تكن الأرض في معظمها مياهاً، فهذه المياه في أغلبيتها مياه البحار والمحيطات، بينما لا توجد سوى نسبة قليلة في الأنهار والمياه الجوفية ومختلف المصادر الأخرى وتتوزع بشكل متفاوت ومختلف على سطح الأرض، فأراضي الاتحاد السوفييتي سابقاً تضم وحدها سدس المصادر على الأرض. وقد أصبح هذا التفاوتُ يقسِّم الدول إلى غنية وفقيرة ومتوسطة وهو ما انعكس بصورة ما على تفاوت في القوة بين الدول. صحيح أن مياه البحار والمحيطات، هي مصدر الأمطار في عمليات التبخر، إلا أن الطبيعة المناخية المتفاوتة في أقاليم العالم ربما تأتي بما لا تشتهيه الدول من أمطار ومصادر مائية أخرى. وفي عالمنا اليوم الذي أخذت تشتد فيه حلقات الصراع والتنافس، وحلقات التعاون أيضاً حول الموارد الطبيعية، تأتي المياه كأحد أهم هذه الموارد، لتحتل موقعاً حساساً وحيوياً في سياسات الدول وخططها لاستغلال مواردها، ليس فقط في ما يتعلق بالجوانب الاقتصادية، بل بالأمن القومي أيضاً. ولا شك في أن الشرق الأوسط أكثر مناطق العالم استراتيجية لما يزخر به من مواد النفط، لذلك فهو يعج بالتوترات والصراعات السياسية والأمنية والمذهبية والعقائدية التي تدور في معظمها حول هذه الثورة ومن يستأثر بها من قوى إقليمية ودولية وأدوات محلية. وإذا كان الشرق الأوسط يثير المشكلات بما فيه من ثروة، فإنه أيضاً بؤرة للتوتر بسبب شح الطبيعة في هذا المورد الحيوي، فالشرق الأوسط يحمل صراعات ترتبط بإدارة دول خارجية قد لا تكون العلاقات معها على ما يرام، ومثال ذلك دول حوض النيل التي ما زالت في خلاف إلى جانب نهري دجلة والفرات اللذين ينبعان من تركيا. وهذه الصراعات حول الأنهار من دول المصدر والمصب تتولد عن غياب علاقات سياسية واقتصادية وثقافية قوية بين الدول المشتركة في الأنهار، كما أن غياب قانون دولي ينظم العلاقات بين دول المصب ودولة المنبع والدول التي تمر بها الأنهار، رجح ميزان القوة الذي يفرض نفسه في علاقات ردعية أو أمنية، ولكن تغليب المصالح المشتركة من شأنه أن يحل الكثير من المشكلات المائية في صيغة اتفاقيات ومعاهدات تكون قاعدة جيدة مثبطة للصراعات. وتزداد أهمية المياه في كونها شريان الحياة والتنمية الذي تزيده أهمية الزيادة السكانية الكبيرة المميزة للشرق، كما أن في الشرق كثيرا من الدول التي تعاني مشكلات التلوث في مصادر المياه والتي تسبب أمراضاً تكلِّف الدول أموالاً باهظة كحال اليمن مثلاً. وما يثير القلق في إطار المياه في الشرق الأوسط ليس ما تخرج به المؤتمرات العالمية والإقليمية التي تعقد حول هذا الموضوع المهم عالمياً، بل إن هناك في الشرق الأوسط ظاهرة التصحر وتزايد السكان وضعف الخطط والتقنيات المستخدمة في تحلية المياه وتصفيتها كما يعاب على المنطقة عدم وجود استراتيجيات أمنية مائية في وضع السلم والحرب والاضطرابات المناخية المدمرة. وفي هذا السياق برزت السعودية كأولى دول العالم في تحلية مياه البحر التي تستخدم فيها تقنية غربية كانت تبحث عن تسويقها، وهي التقنية التي لا بد لها من دولة غنية كالسعودية حتى ترى النور. أجل كثيرة هي مشروعات السدود، ولكن هناك غيابا لعمل تنظيمي إقليمي بتكنولوجيا حديثة وسياسات تعاونية حول المياه في الشرق الأوسط. ومن المشروعات المائية التي خرجت وفشلت وارتبطت بالصراعات كان أهمها على الإطلاق مشروع السلام التركي، فخلال الحرب الإيرانية- العراقية، وبعدما تحسنت العلاقات التركية- العربية ووصلت إلى ذروتها في منتصف ثمانينيات القرن العشرين، تقدمت تركيا بحل مبكر ولكنه جزئي للمياه في الشرق الأوسط عندما أعلنت عن مشروع خط أنابيب السلام عام 1988. وقد حمل لواء هذا المشروع تورجوت أوزال، رئيس الوزراء آنذاك، وكان المشروع يقضي بإنشاء أنابيب لجلب المياه وتزويد بلدان في الشرق الأوسط كسوريا والأردن وإسرائيل ودول مجلس التعاون، وهذه المياه تأتي من نهري جيحان وسيحان بتركيا اللذين لا توجد بشأنهما أية مطالبات دولية تتعلق بالسيادة المائية لأنهما يجريان بالكامل في الأراضي التركية. واصطدم المشروع بالسعر العالي لوصول المياه، كما أن هذا السعر كان يرغب فيه “أوزال” مقايضة النفط بالمياه، لأنه كان من الحالمين بالوصول إلى نفط كركوك بالعراق، إلا أن علاقات الشك والريبة بين دول المشروع سادت، ووقفت أسباب أخرى عائقاً أمامه كالخوف من الأعمال الإرهابية لضرب ذاك الخط. كما أن هذا المشروع يحتاج إلى وضع أمني مستقر في الشرق الأوسط وإلى إنهاء الصراع الفلسطيني- الإسرائيلي، وكان المشروع قد طرح في فترة ليست مختلفة كثيرة عن اليوم. والحق أنه لا بد من التسليم بأن تركيا كانت من دون شك تبحث عن مردود مادي كبير ودور أمني وسياسي مهم، فقد كانت ترغب في إقامة علاقات مترابطة بين دول الشرق الأوسط تشكِّل رادعاً للصراعات وتطورُ العلاقات التجارية والاقتصادية والثقافية بين دولهِ. وجدير بالذكر أن تركيا في حاجة إلى المياه واستغلال مواردها في التنمية، كما أنها في أحد مشاريعها المائية كانت تهدف إلى حل المشكلة الكردية التركية بتطوير وتنمية مناطقها. أجل، هناك جدل كبير حول تحويل المياه من أنهار ومياه جوفية وغيرها إلى سلعة تباع، ولها ثمنها العالمي، ولكنها سلعة أو مورد ما زال العالم يختلف ويتصارع ويتنافس ويتعاون حوله. وفي شرقنا، مازال الصراع أكبر من التعاون، وربما جاء المستقبل بسياسة تعاونية، فيعكس الآية لأن الناس سيدركون مدى أهمية حل هذه المشكلات بسبب الحاجة الماسة لدى جميع الأطراف للمياه في التنمية وحياة الشعوب، لا سيما عندما تنحسر سلطة النفط، وفي ظل ندرة المياه التي لا غنى عنها، ولا يتأتى استغلال المياه في هذه السبيل إلا في ظل التفاهم المتبادل. ليس العجب من هذا الصراع، بل العجب ممن يجهل طبيعة الشرق الجغرافية. ففي هذا الشرق نجد الخليج العربي من أفقر وأغنى الدول في آن معاً؛ فهو فقير بالموارد المائية وغني بالموارد الأخرى، ولكنه يحتاج إلى المزيد من التعاون ووضع الخطط الاستراتيجية باستخدام التكنولوجيات الحديثة لتوفير هذه المادة الحيوية والحفاظ عليها حتى من خلال فرض ضريبة مائية، لكنها مهمة في توفير موارد مالية لتطوير هذا القطاع وذلك في نطاق السياسات العامة.وعلى أرض أجدادي هذه التي تفتقر إلى الماء ويمر عليها المزن مرور الكرام، أتذكر أن سحابة مرت فوق رأسي ورأس صديقٍ عاداه الزمن فَعَلا الشيبُ مفرقه، فقلت له، أترى هذه البارقة السوداء التي مرت فوقنا ولم تمطر. فقال، إنها كَفَتْنا بظلالها...إنها كحبي الذي مرَّ ولم يمطر عليّ... فأجبته: دع حبَّك جانباً وأجبني لماذا لم تمطر؟ فقال، ربما نحتاج إلى صلاة الاستسقاء. فقلت، إذن لم يصبنا الغيث من تلك السحابة بسبب ضعف صلاتنا؟! فقال، ربما. فقلت، اذهب أنت وحبُّك الذي لم يمطر وصلِّ له ليمطر! يا أخي إن الله الكريم حَبا هذه الأرض الطيبة بالكثير ولكننا انتحينا جانباً ننتظر بارقة في السماء... علينا بالرغبة والبذل أكثر في العمل، وعلينا أن نقرن الصلاة بالعمل، ففي عملنا صلاةٌ تجلب ما هو أغنى من هذه السحب. فحدق فيّ قائلاً، ما هذا؟ فقلت هذا ما لم تعلم به علماً... اِعقلها وتوكّل.[c1]* عن / صحيفة (الاتحاد) الاماراتية [/c]