من المسلم به أن إشكاليات الديمقراطية ليست رهينة بتوصيف البلد إن كان نامياً أم متقدماً، لكونها حراكاً تفاعلياً متجدداً مع الزمن، إلا أن حل تلك الإشكاليات قد يرتبط بذلك التوصيف لأنه متصل بالسلوك الحضاري للقوى السياسية، فغالباً ما تصطدم ديمقراطية الدول النامية بقوى تقليدية تناهض فلسفتها لكونها تدرك أن بقاء نفوذها ومصالحها مرهون بديمومة الموروث التقليدي السلبي!من هذا المنطلق نجد أن الديمقراطية في البلدان النامية – ومنها اليمن – تستغرق زمناً ليس بالقصير في الصراع بين قوى الحداثة، والتجديد، وبين القوى التقليدية الرافضة كل مبادرات إخراج المجتمع من موروثه البالي، الأمر الذي يجعل التقدم على المسار الديمقراطي في هذه المرحلة بطيئاً، ومتعثراً بالكثير من الأزمات المفتعلة، والتوترات السياسية، التي كانت على مرّ تجارب الشعوب تنتهي لصالح قوى الحداثة والتجديد لكونها تمثل الواقع، وتترجم طموحات الأجيال التي تستلهم وعيها وثقافتها من المحيط البيئي الذي يتجاوز الحدود الجغرافية بفضل تقنيات العصر.اليوم عندما نتشبث بالحوار، ونعتبره الممارسة الأكثر سلماً فذلك لأنه القاعدة الأساس للفلسفة الديمقراطية.. وحين يتشبث آخرون بفعاليات الشارع، ولغة التهديد والوعيد، وما يرافق ذلك من عنف، فذلك لأنهم يستمدون السلوك السياسي من عالمهم التقليدي لما قبل نصف قرن أو قرن عندما كانت الدول مجرد قبائل تُغير على بعضها البعض، وتَنْهب بعضها البعض، ومن كانت له الغلبة أعلن نفسه حاكماً..!تلك الثقافة البالية ظلت على مدى قرون سبباً رئيسياً لتخلف معظم بلداننا، ووقوعها لقمة سائغة بأفواه مختلف القوى الاستعمارية، التي كانت تجد في كل بلد من يعينها عليه من أبنائه – انتقاماً من الطرف الآخر - بغير اكتراث للعواقب، أو ما سيحل في البلد من بلاء يطول الصغير والكبير، لأن الأحقاد تعمي البصائر، وتضلها عن إدراك أصغر الحقائق.وعلى الرغم من أن الديمقراطية تمثل وسيلة العصر لبناء النظام السياسي لأي بلد، من خلال ما تفرضه من ممارسات سلمية للمنافسة، وتداول الحكم، إلا أن المفارقة التي شهدتها اليمن هي أن هناك من يمارس تجاربها، ويحرص على التمتع بكل الحقوق والحريات المرتبطة بها، لكنه بمجرد أن يخسر المنافسة يهرول إلى الشارع محرضاً على إسقاط النظام، وعاد إلى سلوكه التقليدي لحياة ما قبل نصف قرن أو قرن، وكأنه يشترط الفوز لنفسه للاعتراف بنتائج الديمقراطية – على غرار ما شهدته ساحتنا الوطنية في أعقاب الإعلان عن نتائج الانتخابات الرئاسية 2006م ، وحتى اليوم، رغم الاعتراف الصريح بنزاهة الانتخابات، وتكافؤ فرص مرشحيها..!ومن هنا نجد أن إشكاليات الديمقراطية التي نواجهها، هي تدني وعي بعض القوى السياسية بمعنى الديمقراطية، وممارساتها، والحقوق التي تمنحها للفرد أو التنظيم وللمسئوليات التي تفرضها عليه، فمثل هؤلاء يجهلون تماماً أن الدول المتقدمة لم تتقدم إلا بفضل الديمقراطية، لأنها استطاعت أن تؤمِّن لشعوبها مناخاً سلمياً آمناً تفرغت خلاله لعملية البناء والتنمية وتطوير علومها وصناعتها، وإصلاح شؤونها بعد أن كانت غارقة في الحروب والصراعات وتسخر كل أموالها وجهود أبنائها لخوض هذه المواجهات..!ونحن في اليمن عندما تحولنا إلى الديمقراطية لم يكن ذلك لركب موجة الغرب، بل لأننا كنا مقتنعين بأنها وسيلة جيدة لتعزيز السلام والاستقرار في بلدنا بعد أ أنهكه التشطير والصراعات، والاغتيالات، والفتن، وتعثرت كل طموحاتنا الوطنية.. إذن ما قيمة الديمقراطية عندما يجعل منها البعض مصدراً للفتن، والتخريب، ودعوات التشطير، والتبعية لقوى خارجية تتربص بالوطن سوءَ!؟اليوم من حق الجميع أن يسأل: لماذا نمارس الديمقراطية إذا كان البعض يستغلها للعودة بالوطن إلى زمن ما قبل الديمقراطية والوحدة؟ ولماذا نمارس الديمقراطية إذا كان هناك من سيحرض الشارع على التمرد والتخريب إذا لم يفز بالانتخابات؟ ولماذا نمارسها إذا كانت ستؤدي إلى تعطيل المؤسسات الإنتاجية، والتعبئة للاعتداء على المنشئات النفطية، ووقف التعليم في المدارس، وعرقلة الاستثمارات؟لا شك أن هناك من يفهم الديمقراطية بطريقة معاكسة تماماً لمعناها، ليس لأنه بليد إلى هذا المستوى، ولكن لأنه يرى أن مصلحة الحزبية والشخصية هي في غياب السلم الاجتماعي، والحراك التنموي، وفي ديمومة الفقر والجهل والتخلف وفي بقاء يديه ممدودة للتسول باسم الوطن وأبنائه!
|
آراء حرة
إشكالية الديمقراطية في أدعيائها
أخبار متعلقة