ثورة ردفان
محمد زكرياالزمان : 14أكتوبر عام 1963م .المكان : القصر البيضاوي للحاكم العام البريطاني في عدن. الشخصيات : المندوب السامي لمستعمرة عدن ، القائد العام للقوات البريطانية في الشرق الأوسط وتحديداًفي عدن في المقر الرسمي للمندوب السامي البريطاني المتربع على ربوة في مدينة التواهي المطلة على مياه البحر العربي الذي اطلق عليه (القصر البيضاوي)، وأشعة الشمس الذهبية تنسج خيوطها على مياه البحر الزرقاء الأخاذة المستمد لونها من سماء عدن الصافية ، وأمواج البحر ترتطم على الصخور الصلبة فتتحطم وتعود أدراجها. جلس حاكم عدن على المكتبة وفي يديه بعض الأوراق التي احتوت على تقارير خطيرة تفيد أنّ ثورة مسلحة اندلعت في ردفان ، وتقول التقارير « إنه من الضرورة بمكان الإسراع في إطفاء جذوة تلك الثورة قبل أنّ يستفحل أمرها وتنشب نيرانها في كثير من مناطق محمية عدن الغربية وتحديداً في المحميات التسع » . وكان جالساً أمام مكتبة المندوب السامي القائد العام للقوات البريطانية في الشرق الأوسط بعدن . وقد ظهرت على وجهه ملامح القلق والاضطراب الشديدين . وعندما انتهى المندوب السامي من قراءة التقارير وأزاح الأوراق جانباً ، والتفت نحو القائد العسكري العام دون أنّ يتكلم ، ولكنه كان مثبتاً عينيه على القائد العسكري إليه ليحثه على الكلام . فقال على الفور القائد العسكري ـــ الحقيقة لقد كتبت إلى وزير المستعمرات رسالة قبل مجيئي إليكم أشرح له الموقف على أرض الواقع في ردفان وهو أن هناك تعاوناً بين مجموعة من شيوخ القبائل في منطقة القطيبي في ردفان شمال مستعمرة عدن وبين الجمهورية العربية اليمنية حيث تمد الأخيرة هؤلاء الشيوخ بالبنادق والذخيرة . ونتيجة تلك الأسلحة المتدفقة من اليمن تجرأت بعض القبائل على إطلاق نار كثيفة من الأسلحة المتوسطة على إحدى كتائب جيش الاتحاد الفيدرالي وهي في طريقها إلى الضالع والتي تمثل خط الدفاع عن مستعمرة عدن . وعلى أية حال ، يعتبر ذلك أول حادثة خطيرة تقع في منطقة ردفان . وأردف القائد البريطاني ، قائلاً : ولقد أوضحت لوزير المستعمرات، أن الجمهورية العربية اليمنية لها بصمات واضحة في ذلك التمرد والدلائل تشير الى أن بعضاً من الأسلحة التي بيد بعض رجال القبائل من آل القطيبي تحمل بنادق روسية الصنع سريعة الطلقات ويستخدمها الجيش الجمهوري وتزودهم بها مصر عبد الناصر . ـــ المندوب السامي بعد أن أشعل غليونه ونظر إلى صعود الدخان وهو يتموج ويتلوى في فضاء الغرفة ، قال بنبرة واضحة ومركزة وعينيه مثبته على القائد البريطاني : يجب العمل بسرعة خاطفة على إطفاء جذوة هذا التمرد الخطير الذي ينذر بعواقب وخيمة في المحمية الغربية إذا لم ينقض عليه في الحال . ويمضي في حديثه: وأخشى أن تمتد شرارة التمرد إلى المحميات التسع كافة ، ومن ثم تصل نيرانها إلى مستعمرة عدن .ــــ القائد العام : في تلك الحالة يجب أن نقوم باستعراض عضلاتنا العسكرية القوية في منطقة ردفان في وقت مبكر وبذلك يسري الخوف والذعر في نفوس المتمردين من جهة وستكون تلك القوة درساً وعبرة لمن يحاول الخروج من قبضتنا من جهة أخرى ، إذا أردنا لمثل هذا النوع من القلاقل ألا ينتشر إلى أجزاء أخرى من مشايخ وإمارات المحمية الغربية . ـــ ويقطع المندوب السامي خيط حديث القائد البريطاني ، متسائلاً ما الخطة التي يجب أن نتبعها في وأد ذلك التمرد في المهد؟ ، أرجو منك التحدث بإسهاب حول تلك الخطة والهدف منها .ـــ القائد : السيطرة على خط مواصلاتنا في الضالع ومنع جماعات المتمردين من الدخول إلى المنطقة . ويضيف ، قائلاً : الحصول على قاعدة ( الثمير ) لتكون نقطة انطلاق لدورياتنا إلى شرق ردفان . وستتم العملية بمساعدة السلاح الجوي الملكي .ــــ ما هو حجم القوة في تلك العملية العسكرية إزاء المتمردين في ردفان؟.ــــ لقد تم التخطيط لتك العملية العسكرية التي أطلقنا عليها اسم ( كسار جوز الهند ) والتي ستبدأ في الرابع من يناير 1964م . وستقوم بالعملية الكتيبتان الثانية والثالثة من جيش الاتحاد النظامي المدربين تدريباً عالياً وستدعمهما المدفعية البريطانية ، والفرقة الملكية للمهندسين . وعلى الرغم أن القائد العام للقوات البريطانية في الشرق الأوسط في مستعمرة عدن ، قد طمأن المندوب السامي على نجاح تلك الحملة العسكرية غير أن الأخير خامره إحساس غريب ، بأن تلك الاضطرابات والقلاقل العسكرية التي اندلعت في منطقة ردفان ستكون لها عواقب وخيمة وخطيرة على وجود البريطانيين في المحمية الغربية إضافة إلى المحمية الشرقية في حضرموت السلطنتين ( القعيطية ، والكثيرية ) بصورة عامة ومستعمرة عدن بصورة خاصة . وقبل أنّ يقوم القائد البريطاني من مقامه ، بادر إليه المندوب السامي بالسؤال: هل أنت متأكد أن جنود جيش الاتحاد الفيدرالي وهم من أبناء المنطقة سيفتحون النار على أبناء جلدتهم ، وعشيرتهم ؟ . ـــ ارتسمت على وجه القائد البريطاني ابتسامة لا معنى لها ، وقال على الفور إن جيش الاتحاد جيش منضبط و يطيع الأوامر العسكرية الصارمة الموجهة إليه . والحقيقة أنّ المندوب السامي كان صاحب نظرة ثاقبة عندما أدرك أنه من الصعوبة بمكان أن تحدث مواجهة صريحة بين جيش الاتحاد المؤلف من أبناء الريف والثائرين من أبناء منطقة ردفان الذين ينتمون إلى عشائر وقبائل متداخلة فيما بينهم . وأن تلك المسألة تمثل نقطة ضعف في الحملة العسكرية الأولى التي من المقرر أن تبدأ مع خيوط فجر الرابع من يناير 1964م . [c1]الحملة الأولى[/c]وفي فجر الرابع من يناير 1964م ، أنزلت الطائرات المروحية ( هيلوكبتر ) عدداً من الجنود فوق مرتفعات ردفان وتحديداً على وادي ( ربوة ) وعلى الأرض العالية المشرفة على وادي ( المصراح ) . تقدمت كتيبة بمساندة الأسلحة الثقيلة نحو وادي ( ربوة ) للسيطرة على المرتفعات العالية المطلة على وادي ( تيم ) وكتيبة أخرى صوب الجنوب الشرقي بهدف السيطرة على جبال ( البكري ) المتحكمة بالطرق وبالتالي يمكن حصار الثوار في الوادي ، وضربهم بسهولة والقضاء عليهم قضاء مبرما . [c1]عملية «كسار جوز الهند» [/c]في ذلك الوقت كان الثوار ، يراقبون مسرح العمليات العسكرية التي كان يقوم بها البريطانيون ، وعندما حانت ساعة الصفر ، وصار العدو في مرمى الهدف ، انهمر رصاص الثوار على البريطانيين بصورة مستمرة ومكثفة ومركزة ومن كل مكان وحدثت فوضى عارمة بين صفوف الجنود ، ما دفع القيادة البريطانية إلى أن تأمر بقية الطائرات حاملات الجنود بالعودة إلى قواعدها جراء نيران أسلحة الثوار الكثيفة التي لم تنقطع ما أسفر عن مقتل وجرح عدد من جنود الكتيبة التي كان من المفروض عليها السيطرة على قمم مرتفعات جبال ردفان الاستراتيجية . وهكذا لم تستطع خطة (كسار جوز الهند) تحقيق أهدافها الرامية إلى السيطرة على المرتفعات العالية في منطقة ردفان من جهة ووأد الثورة في المهد من جهة أخرى.وعلى أية حال تمكن الثوار من إغلاق طريق الضالع لفترة 24 يوماً على الرغم من العتاد العسكري البريطاني الفتاك والحديث بالنسبة لأسلحة الثوار الذين لا يملكون سوى البنادق العتيقة وقلة نادرة كانوا يملكون بنادق سريعة الطلقات ( كلاشينكوف ) . وبذلك تكون الحملة الأولى التي بدأت مع خيوط فجر الرابع من يناير وانتهت في 31 يناير “استمرت قرابة 24يوماً” والتي أطلق عليها اسم ( كسار جوز الهند ) , قد فشلت فشلاً ذريعاً وكان لها نتائج عسكرية سلبية على هيبة القوات البريطانية في المنطقة ودفعت بعدد من القبائل في منطقة ردفان إلى الانضمام إلى الثوار بعد أن أظهروا رباطة جأش ضد القوات البريطانية الأكثر منهم عدداً وعدة . ولقد عقب عدد من المرسلين العسكريين البريطانيين أن الثوار في قمم جبال ردفان أثبتوا بجدارة أنهم يملكون تكتيكاً قتالياً رفيع المستوى ، فقد استغلوا عامل الأرض التي يعرفونها تمام المعرفة ، واستطاعوا كذلك أن يأخذوا زمام المبادرة من القوات البريطانية. وكانت تلك الحملة العسكرية الأولى في منطقة ردفان من أهم المعارك العسكرية إن لم تكن أهمها على الإطلاق حيث كانت البوادر الأولى في انتصار الثوار على القوات البريطانية من ردفان. [c1]غضب الرأي العام البريطاني [/c]ولقد تسربت أنباء تلك الحملة البريطانية الأولى التي تحطمت على صخرة مقاومة الثوار إلى الصحافة البريطانية ، ويقال إن الذي سرب تلك المعلومات هو أحد مراسلي هيئة الإذاعة البريطانية ( B. B. C) الذي كان مرافقاً للحملة العسكرية . ولقد هاجمت كبريات الصحف البريطانية هجوماً لاذعاً كبار القادة العسكريين البريطانيين الذين خططوا للعملية العسكرية ( كسار جوز الهند ) ، ووصفتهم بأنهم ضباط مغرورون ، ومتغطرسون يظنون أن الحملة ماهي إلاّ نزهة عسكرية ، فاستهانوا بالمتمردين الذين لقنوهم دروساً في فنون القتال بصورة تدعو إلى الإعجاب والدهشة . وعلى أية حال ، لقد أقامت الصحف البريطانية الدنيا ولم تقعدها ، وثار الرأي العام البريطاني إزاء القتلى والجرحى في صفوف القوات البريطانية .وعلقت صحيفة التليجراف على قادة الحملة العسكرية الأولى في منطقة ردفان ، بما معناه : “ أنهم ساروا إلى المعركة وأعينهم معصوبة وهم لا يدرون عن خصمهم شيئاً سوى أنهم شرذمة من المتمردين سيتم القضاء عليها في الحال والتو ، ولكن واقع الأمر أن هؤلاء المتمردين كانوا أصحاب شجاعة وإقدام وثقة في النفس من جهة ولديهم قدرة عالية في التكتيكات القتالية من جهة أخرى فلقنوا القوات البريطانية درساً قاسيا سيظل وصمة في سجل العسكرية البريطانية . [c1]الحملة الثانية [/c]وكان من الطبيعي ألا تسكت قيادة الشرق الأوسط البريطانية في عدن عن تلك الحملة الأولى التي باءت بالفشل العسكري الذريع والتي كانت لها عواقب ونتائج سلبية ووخيمة على قوة وهيبة بريطانيا العسكرية في المنطقة. أما في الجانب الآخر المتمثل في الثوار فقد ساد جو من الثقة في أنفسهم ، وارتفعت معنوياتهم بشكل كبير بعد أن أوقعوا بقوات بريطانيا العظمى الهزيمة فقويت عزيمتهم على منافحة ومقاومة البريطانيين ، وعلموا أنها ليست بالقوة العسكرية التي لا تقهر . وكان جراء ذلك أن انضمت عدد من القبائل والعشائر إلى الثوار بعد الحملة العسكرية البريطانية الأولى في منطقة ردفان ـــ كما قلنا سابقاً ـــ . [c1]عملية «رستم» العسكرية[/c]- وضع القادة العسكريون خطة أخرى أطلق عليها اسم ( رستم ) ، وكانت أهدافها تتمثل في مد سيطرة القوات البريطانية العسكرية إلى وادي ( يتم ) ووادي ذنبة ولكن أهداف تلك الحملة الثانية فشلت أيضا بسبب أن الجيش الاتحادي لم يستطع أن يمد سيطرته العسكرية على هذين الواديين . والحقيقة أن عددًا كبيراً من عناصر الجيش الاتحادي كان لهم دور مشرف في تلك الحملة والحملات الأخرى ، فقد رفضوا القتال ضد أبناء عشيرتهم ، وجلدتهم ما كان السبب الرئيس في فشل تلك الحملة الثانية . وهذا ما نبه إليه المندوب السامي في عدن للقائد العام البريطاني في الشرق الأوسط , ويبدو أن هذا الأخير كان يجهل تماماً خصائص وطبيعة اليمنيين فلم يلتفت إلى كلام المندوب السامي الذي مكث فترة طويلة في عدن فتعرف على خصائص القبائل في المحميات التسع ( محمية عدن الغربية ) . والجدير بالذكر أن الحملة الثانية وقعت ما بين الأول من فبراير والثالث عشر من أبريل 1964م .[c1]ضرب حريب [/c]والحقيقة أن الثوار في ردفان ، كانوا يجدون الدعم والمساندة الكاملين من قبل ثوار ثورة 26 سبتمبر في اليمن التي تحررت من قيود وأغلال الحكم الإمامي المستبد وطفقت تخطو خطوات حثيثة في بناء اليمن الحديث على الرغم من العراقيل الصعبة التي كانت تحيط بها من كل مكان . وكانت السلطات البريطانية تدرك تمام الإدراك أن الجمهورية العربية اليمنية تساند وتمد الثوار بالأسلحة والذخيرة للوقوف ضد قواتها ولذلك عمدت إلى اختراق حدود اليمن الجمهوري وضرب مدنه . وقد حدث هذا عندما فشلت الحملة العسكرية البريطانية الثانية في ردفان ، فقامت الطائرات البريطانية بشن عدد من الغارات الجوية على منطقة حريب. وتلك الغارات من قبل سلاح الجو الملكي على حريب اليمنية أن أثارت ردود أفعال غاضبة في الصحافة البريطانية من جهة وفي هيئة الأمم المتحدة من جهة أخرى . مما وقع حكومة عدن البريطانية في حرج شديد .[c1]التكتيك القتالي للثوار[/c]ويلفت نظرنا أن التكتيك القتالي للثوار تطور بشكل كبير واتخذ أداء تنظيمي دقيق وباتت هناك استراتيجية قتالية واضحة للثوار ضد المواقع العسكرية البريطانية من جهة وازدياد أعداد الثوار بصورة ملحوظة حتى وصلوا إلى أكثر من 500 مقاتل من جهة ثانية ، وبات الثوار يرتدون ملابس رسمية متميزة ، وذكرت جريدة : “ التايمز “ البريطانية أنهم ( أي الثوار ) في غاية التنظيم ، ومسلحون تسليحاً جيداً. وهذا ما أكدته المخابرات البريطانية في رسائلها السرية الموجهة إلى القادة العسكريين البريطانيين . وما أكده أيضاً المندوب السامي في سياق تقريره الذي كتبه إلى حكومة بريطانيا ، قائلاً : “ إن ما لم يكن عادياً هو أن الألغام بدأت تستخدم ، وبدأت تبلغنا التقارير عن وجود الثوار في ميدان المعركة وهم بأزيائهم المتميزة يسمون أنفسهم بمقاتلي الجبهة القومية( N.L.F ) ) وكان هذا أول تهديد خطير للأمن خارج عدن نقابله منذ قيام الانتفاضات في الريف” .[c1]( N.L.F )[/c]ونستخلص من تقارير المخابرات البريطانية ، وتقرير المندوب السامي في حكومة عدن ، ظهور اسم الجبهة القومية ( N.L.F )لأول مرة وبعبارة أخرى أن تنظيم الجبهة القومية أعلن عن نفسه صراحة بأنه هو الذي يدير المعارك والعمليات العسكرية ضد القوات البريطانية سواء في منطقة ردفان أو في الضالع أو في مناطق الريف .. ويذكر الدكتور محمد عمر الحبشي أن الجبهة القومية لتحرير جنوب اليمن المحتل تأسست في 14 أكتوبر 1963م “ وكانت المحرك الحقيقي للتمرد المسلح في قبائل ردفان ولأحداث الثورة بوجه عام “ . وبات هناك تطور واضح في التكتيك القتالي للثوار لا يقتصر فحسب على ضرب العدو البريطاني بالبنادق بل اصبح استخدام الألغام من الوسائل القتالية للثوار . وبات أيضاً للثوار بزة عسكرية متميزة بهم ـــ كما قلنا سابقاً ـــ كل هذا يدل بصورة ملموسة على مدى التطور الكبير الذي وصل إليه الثوار في التكتيك القتالي . [c1]قوة ردفان[/c]وأشارت التقارير العسكرية إلى عددٍِ من المعلومات المهمة عن الحملة الثالثة على منطقة ردفان وهي أن غالبية القوة البريطانية كانت مؤلفة من القوات البريطانية بخلاف الحملتين الأولى والثانية التي كانت غالبيتها مكونة من الجيش الاتحادي , وتولى في تلك الحملة ( جون كابون ) القائد العام للقوات البرية في الشرق الأوسط بعدن القيادة بدلاً من قائد جيش الاتحاد . وأنشئت قوات التدخل السريع الخاصة لضرب الثوار والثورة في ردفان . وقد سميت تلك الحملة الثالثة باسم ( قوة ردفان ) . وحددت حكومة صاحبة الجلالة البريطانية الأهداف التي يجب أن يتبعها ( جون كابون ) في منطقة ردفان وهي كالتالي : ـــ منع الثورة من الانتشار .ـــ عودة السلطة البريطانية المفقودة في ردفان .ـــ وقف هجمات الثوار على طريق الضالع . [c1]الثوار والتكتيك القتالي[/c]وفي الحملة الثالثة استخدمت الطيران الملكي الحربي بكثافة فضلاً عن أن الأغلب من القوات كانت من الجيش البريطاني حيث وصل عددها تقريبا إلى ما يزيد على ( 3000 ) جندي , وتم أيضاً استخدام وسائل تكتيكية قتالية لأول مرة فوق قمم جبال ردفان تتمثل بعملية إنزال الجنود من حاملات طائرات ( الهيلكوبتر ) على عددِ ِ من المرتفعات العالية ، والتحرك تحت جنح الظلام . وتم في تلك الحملة تهجير عدد كبير من سكان قرى مناطق ردفان بغرض الضغط على الثوار . واستمرت الحملة في منطقة ردفان أو بتعبير آخر تواصلت المعارك العسكرية بين الثوار والقوات البريطانية من 14 أبريل حتى 11 مايو 1964م . أظهر فيها الثوار رباطة جأش ، وتكتيكاً قتالياً رفيع المستوى ، وقدرة نارية كثيفة وقوية ومركزة ، وقدرة على المناورات القتالية أدهشت العدو. وقد وصف أحد المراسلين البريطانيين في هيئة الإذاعة البريطانية ( B.B.C ) الثوار بــ ( الذئاب الحمر ) نظراً لشراستهم في القتال وعدم التزحزح من موقعهم مهما كانت التضحيات جسيمة . وكان الثوار يستشهدون في مواقعهم مدافعين عنها حتى آخر قطرة في دمائهم . وعلى أية حال ، فقد باءت تلك الحملة البريطانية بالفشل في منطقة ردفان بسبب المقاومة العنيفة من قبل الثوار ، وتطور وسائل تكتيكهم القتالي ، وبراعتهم في المناورة ، وقدرتهم الفائقة على أخذ المبادرة من العدو . وتذكر بعض التقارير السرية للمخابرات البريطانية أنه من الأسباب الأخرى التي ساهمت في هزيمة القوات البريطانية سواء في الحملة الأولى أم الثانية والثالثة هو أن جنود جيش الإتحاد ، كانوا يتراخون في تنفيذ الأوامر الصادرة إليهم من القيادات العسكرية البريطانية إبان العمليات العسكرية المتمثلة بعدم الرد على مصادر نيران الثوار . [c1]الحملة الرابعة[/c]وعلى الرغم من الهزائم الفادحة للقوات البريطانية التي تكبدتها على تلال ، وقمم ، وجبال ردفان التي تكاد أنّ تلثم وجه السماء من ارتفاعها الشامخ إلاّ أنّ القيادة العسكرية البريطانية وجدت أنّ تلك الهزائم المتتالية التي لحقت بحملاتها العسكرية الثلاث صفعة في وجه هيبة وقوة بريطانيا العظمى في المنطقة . وبناء على ذلك فقد قررت قيادة الشرق الأوسط البريطانية في عدن أنّ تعد حملة أخرى تتجنب بها الأخطاء التي وقعت فيها في الحملات السابقة . واستمرت تلك الحملة على منطقة ردفان قرابة 12يوماً «من 11 حتى 23مايو 1964م . وفي تلك الفترة وقعت مصادمات حامية الوطيس بين الثوار والقوات البريطانية ، واستخدمت لأول مرة السيارات المصفحة ، والدبابات بصورة مكثفة بالإضافة إلى الطائرات المروحية ( الطوافات ) . [c1]عرين الأسد[/c]لقد وضعت خطة الحملة الرابعة على أساس جر الثوار إلى أماكن مكشوفة ومفتوحة ومن ثم القيام بضربهم بالطائرات ، والدبابات ، لكون السلاح الأخير يعمل بكفاءة قتالية كبيرة في المناطق السهلية والمفتوحة وبذلك التكتيك القتالي يتكبد الثوار خسائر فادحة في الأرواح ما يؤدي إلى انخفاض معنوياتهم القتالية ومن ثم القضاء عليهم . والغريب في الأمر ، أنّ القيادة البريطانية وضعت خطة ، قد ظهر فشلها الذريع في الحملات السابقة وهي توغل الجنود البريطانيون إلى مناطق الثوار . وقد كتب أحد الضباط البريطانيين في مفكرته ، قائلاً بما معناه : « لقد دفعتنا قيادتنا العسكرية إلى عرين الأسد ، فالتهم رؤوسنا « . وكان توقع هذا الضابط البريطاني في محله ، فقد تعرض الجنود البريطانيون إلى خسائر فادحة في الأرواح والعتاد . ودارت المعركة الرئيسة بين الثوار والقوات البريطانية في يوم الثالث والعشرين من مايو في قرية ( القطيشي ) الواقعة على جبال ( البكري ) . وقد وصفت تقارير المخابرات البريطانية بسالة الثوار ، وقدرتهم على الاختفاء في كهوف الجبال بصورة تدعو إلى الدهشة ، ومهارتهم في ضرب القوات البريطانية بشكل دقيق ومؤثر ، وعلى الرغم من استخدام الطائرات الحربية ( الهنتر ) للإغارة على مواقع الثوار , واستخدام الأسلحة الحديثة والفتاكة إلاّ أنها كلها فشلت في تحقيق أهدافها في القضاء على الثورة والثوار بسبب اختبائهم في أخاديد الجبال الشامخة وكهوفها العميقة وعلمهم بطبيعة أرضهم . [c1]من أشرس المعارك[/c]ولقـد وصف مـراسل هيئـة الإذاعـة البريطانيـة ( B.B.C ) المعـركة الحاميـة الـوطيس التـي دارت رحـاها في قريــة ( القطيشي ) المتربعة قمة جبال ( البكري ) بأنها من أشرس المعارك وأقواها التي وقعت بين الثوار والقوات البريطانية وعلى الرغم من أنّ الأخيرة كانت تمتلك الأسلحة الحديثة والفتاكة ، والطائرات الحربية التي كانت تمطر مواقع الثوار إلاّ أنهم لم يتوقفوا لحظة عن إطلاق نيران أسلحتهم على الجنود البريطانيين . وفي السياق نفسه ، تقول المخابرات البريطانية حول بسالة وشجاعة وجرأة الثوار في تلك المعركة الرئيسة : “ إنّ شجاعة الثوار وقدرتهم على مقاومة الأسلحة الحديثة . قد ظهرتا بشكل مثير للإعجاب في هذه المعركة ، فقد شنت طائرات الهنتر سلسلة متتالية من الغارات على مواقع الثوار مستخدمة الصواريخ وقذائف 80مم ولكنها فشلت تماماً في أنّ توقف الثوار عن إطلاق النيران “ . ولم تحقق الحملة الرابعة أهدافها العسكرية وهي هزيمة الثوار ما دفع بالقيادة العسكرية البريطانية في مستعمرة عدن إلى إعطاء الأوامر بالانسحاب بسبب الخسائر الفادحة التي وقعت في صفوف الجنود البريطانيين بين قتيل وجريح من جهة والخسائر الكبيرة في العتاد من جهة أخرى . [c1]سلاح الجو الملكي [/c]والواقع أنّ بريطانيا منذ أنّ وضعت الحرب العالمية الأولى أوزارها وضعت نصب عينيها ضرورة التدخل الواضح والصريح في المناطق الداخلية التي تعرف بـ ( المحميات التسع ) ولقد طفقت السلطات البريطانية بعقد المعاهدات مع سلاطين ومشايخ ، وأمراء ، وحكام المحمية الغربية بغرض أنّ يدوروا في فلكها . ورأت حكومة عدن أنه من أجل تنفيذ مخططها الرامي إلى جعل إمارات ، ومشايخ المحمية الغربية تدخل في طاعتها . كان عليها أن تظهر قوتها العسكرية , وكانت ترى السلطات البريطانية أنّ سلاح الجو الملكي البريطاني هو القادر على تنفيذ تلك الخطة العسكرية حيث أنه في الإمكان إخماد جذوة أي تمرد يحدث في تلك المنطقة. وفي هذا الصدد ، تقول شفيقة عبد الله العراسي : « ورأت بريطانيا أنّ سلاح الجو أصبح القوة الفاعلة والمساعدة لإحداث التغييرات السياسية وتنفيذها في المنطقة وعليه فقد تدخلت بنشاط أكثر في الشئون الداخلية للمحميات كإصرارها على تحقيق الأمن في طرق التجارة ومحاولتها وضع حد للحروب الداخلية ودعم سلاطين وشيوخ المعاهدة ضد العناصر غير الخاضعة من رعاياهم ووقف الميل والاتجاه إلى التفكك والانشقاق المستمر بين القبائل . وكان ذلك بهدف خلق المناخ الملائم لها في تحقيق سياستها الداخلية » . وعلى أية حال ، عندما اندلع الكفاح المسلح في منطقة ردفان ، سارعت السلطات البريطانية بإرسال سلاح الجو الملكي إلى تلك المنطقة لإخماد الإضطرابات والقلاقل العسكرية فيها ولكن المعارك العسكرية التي دارت بين الثواروالقوات البريطانية أثبتت أنّ سلاح الجو الملكي فشل في تحقيق الأهداف العسكرية المتمثلة بإخماد الثورة في ردفان وأنّ نظرية الاعتماد على سلاح الجو فحسب غير فعالة وأنه من الضرورة بمكان الاستعانة بالقوات البريطانية البرية وعلى الرغم أنّ السلاح الجوي الملكي كان يشن غارات مكثفة على الثوار لاحداث أكبر الخسائر فيهم إلاّ أنهم سرعان ما يعودون مرة أخرى ويكبدون القوات البريطانية خسائر فادحة .[c1]الحملة الخامسة [/c]وأعدت بريطانيا العدة للقضاء على الثوار في جبال ردفان ، فأرسلت الحملة الخامسة التي بدأت في الرابع والعشرين من مايو وانتهت بغروب 23 أغسطس 1964م . وكان من الأهداف الرئيسة لتلك الحملة الخامسة هو قطع خطوط طرق تمويل الثوار بالأسلحة والذخيرة القادمة من اليمن الجمهوري ، فكان لا بد من السيطرة على وادي ( نخلين ) . ومن الأهداف الاستراتيجية لتلك الحملة أيضاً السيطرة على جبل ( الحورية ) الذي يصل ارتفاعه إلى ما يقرب من 5500قدم وهو أعلى قمم جبال ردفان . واستعانت بريطانيا في تلك الحملة بالقوات المظلية المعروفة بتكتيكاتها العالية في المناطق المرتفعة . وتوغلت القوات البريطانية المحملة بالسيارات المصفحة في وادي ( نخلين ) ووادي (نياف ) ووادي ( المصراح ) ووادي ( ذبسان ) بغرض قطع طرق قوافل الثوار التي تحمل الذخائر والمؤن من اليمن الجمهوري ـــ كما قلنا سابقاً ـــ . وتوغلت القوات البريطانية المدعمة بسلاح الجو الملكي إلى داخل تلك الأودية دون أنّ تجد أية مقاومة ، وظن الجنود البريطانيون أنّ الثوار ، قد تقهقروا وانسحبوا من مواقعهم . ولم تمض لحظات حتى اشتعلت الأرض ناراً ، فقد أطبق الثوار من كل مكان في الأودية ، ومن فوق قمم المرتفعات يصلون القوات البريطانية ناراً حامية بأسلحتهم . وكان من جراء ذلك أنّ لحقت بالقوات البريطانية خسائر كبيرة بين قتيل وجريح . وكان سلاح الجو الملكي يطير على مستوى منخفض ويلقي القنابل على مواقع ومراكز الثوار بهدف تخفيف العبء على القوات البرية التي أصيبت أصابت فادحة . واستمرت المعارك الشرسة بين الثوار والقوات البريطانية يدعمها سلاح الجو الملكي . وفي العاشر من يونيو استطاع الثوار إسقاط طائرة هيلوكبتر بعد أنّ اخترقتها نيران بنادقهم .[c1]نتائج الحملات البريطانية [/c]والحقيقة أنّ المحللين العسكريين البريطانيين اعتبروا أنّ الحملات العسكرية البريطانية الخمس على ردفان كانت حملات فاشلة بكل معنى لهذه الكلمة ، والبعض قال عنها إنها الخطوة الأولى في مسيرة الاستقلال ، والبعض الآخر وصف تلك المعارك العسكرية التي دارت في تلك المنطقة بأنها كابوس مخيف للعسكرية البريطانية من جهة وأنّ الثوار أثبتوا رباطة جأش يحسدون عليها ، وقدرة غاية في الروعة في استخدام أساليب التكتيكات القتالية التي أذاقت البريطانيين العذاب الغليظ من جهة أخرى . وكلما استمرت الحملات العسكرية البريطانية على مناطق ردفان والريف كانت مقاومة الثوار تزداد صلابة وقوة وشراسة ، ما دفع بمراسل هيئة الإذاعة البريطانية أنّ يصف الثوار بـ (الذئاب الحمر) المعروفة بشراستها في القتال وأنها لا تنسحب من ميدان القتال مهما كان خصمها أقوى منها ، وأنها تقاتل حتى آخر رمق في حياتها .[c1]الهوامش :[/c]سلطان ناجي ؛ التاريخ العسكري لليمن ، الطبعة الثالثة 2004م ، الناشر: دائرة التوجيه المعنوي ـــ الجمهورية اليمنية ـــ صنعاء ـــ .الدكتور محمد عمر الحبشي ؛ اليمن الجنوبي سياسياً واقتصادياً واجتماعياً ، الطبعة الأولى أذار ( مارس ) 1968م . دار الطليعة للطباعة والنشر ـــ بيروت ـــ .شفيقة عبد الله العراسي ؛ السياسة البريطانية في مستعمرة عدن ومحمياتها 1937 ـــ 1945م . الطبعة الأولى 2004م ، إصدارات جامعة عدن ـــ الجمهورية اليمنية ـــ عدن ــــ .