منبر التراث
محمد زكريا تبدت لنا بين الرصافة نخلـــــة تناءت بأرض الغرب عن بلد النخـــل فقلت شبيهي في التغرب والنوى وطول ابتعادي عن بني وعن أهلــــي نشأت بأرض أنتِ فيها غريبـة فمثلك في الإقصاء والمنتأى مثلــــــي تلك بعض الأبيات الحزينة الذي بثها مؤسس الدولة الأموية عبد الرحمن بن معاوية التي سطع شمسها في سماء بلاد الأندلس وهو يقف صامتاً ، يكاد الحزن يعصر قلبه أمام النخلة الذي غرسها في الأندلس . ولقد لقب الأمير عبد الرحمن بصقر قريش المتوفى سنة ( 172هـ / 789م ) ، ولقد أطلق عليه هذا اللقب الخليفة العباسي أبي جعفر المنصور المتوفى ( 158هـ / 775م ) ، وعلى الرغم من الخصومة السياسية الحادة والعنيفة التي كانت بينهما فإن أبا جعفر المنصور مؤسس الخلافة العباسية ، كان يعرف قدر الرجال . [c1]قرطبة سرة الدنيا[/c]ولقد روى الأمير في تلك الأبيات لوعه آلام الغربة والفراق عن الأهل والأحباب و حبه الجارف والعميق إلى مسقط رأسه دمشق التي كانت مرتع صباه و عز سلطان آباءه و أجداده الذين ملكوا مغارب الأرض ومشارقها ، ونحتو مناقبهم ومآثرهم في الحضر ، والبر ، والسهول ، والجبال . وفي تلك الأبيات التي تنساب عذوبة ورقة شبه نفسه بالنخلة التي نبتت في أرض غريبة عن أرضها ، فإنه يشعر بالوحشة والغربة العميقين مثلها . والحقيقة ، لم يكن الأمير عبد الرحمن بن معاوية أو عبد الرحمن الداخل رجل دولة من الطراز الأول ، وقائد عسكري شجاع وقدير فحسب بل كان مولعاً بالعلم والمعرفة . ولقد كانت لديه في قصره في قرطبة مكتبة فخمة وضخمة امتلأت رفوفها بالكتب القيمة , والنفيسة في مختلف نواح العلوم الإنسانية، وكان يسعى دائما وأبداً إلى اقتناء الكتب النادرة التي تظهر في المشرق. وفي عهده صارت قرطبة عاصمة الخلافة الأموية في الأندلس سرة الدنيا ، وقبلة طلاب العلم والمعرفة من أوربا حيث كان يبعث ملوك أوربا أبناءهم ليدوسوا في جامعة قرطبة العلوم الإنسانية المختلفة والمتنوعة ، والكثير منهم نقلوا عادات وتقاليد العرب إلى بلادهم بل أنّ منهم من تأثر تأثيراً كبيراً في المسائل الدينية من الدين الإسلامي الذي يدعو إلى التوحيد ، فنشروا تلك الفكرة في معتقداتهم اللاهوتية .[c1]النخلة الشامخة[/c]وعلى أية حال ، أن تلك النخلة العربية الأصيلة الأصلية المهاجرة من الشام التي شبهها الأمير عبد الرحمن نفسه بها ــ كما أسلفنا ـــ ، مازالت صامدة ماثلة للعيان على الرغم من مرور الأيام ، والشهور ، والسنيين الطويلة ، وهبوب الأعاصير السياسية على الأندلس ( أسبانيا الإسلامية ) , وتقلبات الأوضاع، حقيقة لم يبق منها سوى جذعها الضخم ولكنها تتحدث عن تاريخ أمجاد ، ومآثر ، ومناقب الحضارة الإسلامية التي نشرت ضيائها على مناطق كثير من بلدان أوربا.