د. محمد الرميحيأن يعود المجرم عن سابق عمله ويعترف بخطئه فذلك عمل عادة ما يقدر إيجابياً من المجتمع الذي يعيش فيه، وعادة ما يذهب محللو الفعل الجرمي من المتخصصين للبحث في دوافع العمل الإجرامي وخلفيته الاجتماعية والاقتصادية والفكرية، الظاهر منها والمباشر كما الخفي البعيد.الجريمة ظاهرة إنسانية، بمعنى وجودها في المجتمع ممكن، واحتمال انتشارها قائم، إلا أن الجريمة ميدان لا يجد أحد من العقلاء مدخلاً لتبريره. لذلك تبني المجتمعات قاطبة السجون، وتقيم النظام القانوني، من أجل ردع الجريمة بالقصاص، ومن جهة أخرى تدرس المجتمعات أسباب الجريمة وتعالج جذورها في الوقت نفسه.في جريدة «الشرق الأوسط» خلال الأسبوع المنصرم نشرت على حلقات للجمهور العام، ومن يريد أن يعرف، قصص عدد من الشباب السعودي الذين عادوا لسبب أو لآخر من العراق، كل له قصة مختلفة، إلا أن التبرير الذي أعطي لقصص هؤلاء تبرير غير مقنع على أحسن الظروف ومضلل على أسوأها.لقد قدم للقراء إجرام هؤلاء الشباب على أنهم ضحايا لفتاوى مضللة، أو لافكار متشددة وهو توصيف سطحي، لا يخرج عن الحقيقة. نعم، ولكنه في الوقت نفسه لا يقلل أبداً من احتمال أن يقوم غيرهم بمثل ما فعلوا أو أكثر، بسبب انتشار تلك الأفكار وقوة صدقيتها لدى البعض. من قراءة متأنية لما قاله هؤلاء العائدون من الجحيم يمكن أن نتوصل إلى عدد من المسلمات علينا العناية بفهمها.المسلمة الأولى أن العائدين من العراق أو المحاربين في نهر البارد أو المقبوض عليهم قبل أشهر في المملكة العربية السعودية، يعيشون في جو ثقافي عام يوصف عملهم المنحرف بأنه «جهاد» أو «مقاومة» أو أي من الأسماء الإيجابية أو حتى المحايدة، بسبب انتشار فهم معوج لهذه المفاهيم..وسواء كان هذا التوصيف عن قصد أو غير قصد، هو أمر لا يمكن قبوله، فالفعل الواحد لا يوصف إلا باسم واحد، فهو إن كان ضلالاً فهو ضلال في أي بقعة ارتكب فيها، بصرف النظر عن خصوصية البقعة من الأرض. هو قتل للأبرياء وإجرام في حق الإنسانية لا هو بمقاومة ولا هو بجهاد. فالوسيلة جزء من الغاية، ذلك استقراء منطقي يوافق عليه العقل الإنساني، فإن كانت الغاية رفيعة وجب أن تتبعها الوسيلة أيضاً. بعض الصحف والكثير من وسائل الإعلام المرئي في عالمنا العربي نجدها تخلط بين هذا وذاك، ويترك فجوة يتسلل منها كثيرون إلى اعتبار ما يقوم به هؤلاء على أنه عمل نلصق به صفة «البطولة»، وهو عنها براء، لم يجد كثيرون الشجاعة لتوصيف ما يتم من اعتداء على الغير وقتل الآخر من المواطنين والآمنين في ديارهم أو محاربة قوات دولة تحكمها قيادة شرعية،على أنه إجرام وقح تحاسب عليه القوانين المرعية.المسلمة الثانية أن هؤلاء، ومن خلال اعترافاتهم المنشورة، كان لهم من ينظم انتقالهم من بلدهم وقريتهم إلى عواصم عربية قريبة من العراق، ثم إلى أطراف تلك البلاد ومنها إلى أطراف العراق الغربية، ومن ثم إلى الداخل العراقي. هذه السلسلة من الإجراءات لا يمكن أن تتم إلا بشرطين، الأول أن هناك مجموعات منظمة تتقن عمل التمويه، ولها تمويل مالي وإنساني تقوم بالتسلم والتسليم لبضاعة الانتحاريين، والثاني أن «سلطة رسمية ما» لا بد أنها تعرف طريقة التهريب وتراقبها، لأنها إن لم تفعل قد تقرر هذه العصابات المنظمة الارتداد عليها والعبث بأمنها، ولا شيء يمنع من ذلك. إذاً تلك الآذان والعيون تتابع حركة ومسيرة هؤلاء كي تتأكد أنهم وصولوا إلى المكان الذي تريد ويريدون، ولا يعقل أن تمر تلك التدفقات كلها على بلد من دون أن تعرف بعض قواه الرسمية من القادم وإلى أي أهداف هو يرمي!المسلمة الثالثة هي هذا الخلط في المعنى العام أن هناك بشراً غير مسلمين علينا أن نقودهم إلى الإسلام، هذا نقص في ثنائية فهم هؤلاء للإسلام وفهمهم للعالم المحيط بهم في عصر السرعة والاتصال. فليس المسلم بقادر، حتى وإن رغب، أن يغيّر قناعات العالم المختلفة ويجذب غير المسلمين إلى دينه بكذا من الأفعال،هذا من جهة. ومن جهة ثانية، ليس من أحد مكلف عقلاً أن يجبر آخرين على أن يمتثلوا إلى قيم يؤمن بها. مثل هذا الأمر لا بد أن يواجه بالحديث بعلانية من دون تردد ومن دون إبطاء أو اعتذار، وتقديم الحقائق القائلة إن المسلمين اليوم هم بليون وأربعمئة مليون نسمة، و«الغرب» يبلغ عدد سكانه نحو 850 مليون نسمة، ورغم الكثرة النسبية إلا أنهم لا يمتلكون التقنية الحديثة والتي أساسها العلم، ويتشتت المسلمون بين دول نامية وشبه نامية وفقيرة، كما يختلفون كثيراً في اجتهادات تطبيق دينهم بين فرق وملل ومظاهر متعارضة من الاجتهاد، مثل هذه الحقائق تغيب كثيراً عن شباب لا يعرفون من دينهم إلا القليل، كما يسكت عنها من يعرف خوفاً أو تزلفاً، فالدعوة إلى الإسلام في عصرنا هذا واجبة بالحسنى وضرب المثال الأخلاقي الرفيع. في الوقت الذي يعتمد الغرب في كلياته العلم الحديث وتطويع التقنية، التي تتيح له التفوق العملي.المسلمة الرابعة وهي مسلمة سياسية تقول بالعداء المطلق لأميركا، وهي مقولة راسخة في ذهن العامة وتتغذى عليها القوى المضللة لحرف كثيرين. في الوقت الذي يعرف الجميع أن الأميركيين ليسوا ملائكة ولكنهم أيضاً ليسوا بشياطين، فإن أميركا بلد واحد يقطنه تقريباً ثلاثمئة وعشرون مليون نسمة، له مصالح تحققها سياسة متوافقة إلى حد بعيد وتحكمه مؤسسات. في الوقت الذي ينتمي العرب (وليس كل المسلمين)، وهم بالمناسبة في مثل تعداد سكان الولايات المتحدة، إلى اثنين وعشرين بلداً، مختلف المصالح، بل ومتصارع في بعض الأوقات إلى حد كسر العظم، مؤسساته في الغالب قائمة على الفردية. وفي الوقت الذي تحتاج الولايات المتحدة إلى النفط والغاز لها ولحلفائها، فإن العرب (منتجي هذه السلعة الاستراتيجية) يحتاجون إلى البضائع والخدمات التي ينتجها هذا الغرب وأميركا. المصالح هنا متبادلة وسوف تبقى متبادلة، لا يجب أن تعمم سواء الإعلام العربي أو القوى المختلفة جذرياً مع أميركا سياسياً، لا يجوز أن تعمم، «العداء». هناك اختلاف نعم تقوم المؤسسات المختلفة ببيان حدوده ومعالجة نواقصه، مثله مثل أي علاقة بشرية ودولية، وبين أي قوة اليوم على الأرض. فالصين، على سبيل المثال لا الحصر، ليست على وفاق كامل مع سياسة الولايات المتحدة، فموضوع تايوان أحد أهم المعالم المختلف عليها بجذرية بينهما، ولكن لا يوجد في الصين اليوم تعبئة فكرية وعقلية ضد الولايات المتحدة بدرجة ما يحدث عندنا نفسها، ولا حتى بدرجة أقل بكثير، ولا يتوافر بها «انتحاريون». فمن الاستسهال للبعض أن يصبوا جام غضبهم على سياسات الولايات المتحدة بدلاً من التفكير في طرق لوضع نقاط الاختلاف ونقاط التلاقي بشكل واضح وحضاري، فالنفط السلعة الأهم للعرب لا يمكن تخزينها من دون بيعها التي يعتمد عليها الاقتصاد العربي، ومن دون ذلك البيع لا يتوافر للعرب المنتجين أو غيرهم الحصول على البضائع والخدمات التي يحصلون عليها اليوم. إذاً هناك مفاهيم مغلوطة تصب في مجرى الجمهور العربي كل يوم، وعندما ينحرف بعض الشباب إليها، نلوم بعضنا.يقول مثل صيني قديم «أعرف عدوك واعرف نفسك تربح الحرب كل يوم». نحتاج أن نعرف أنفسنا للتفريق مبدئياً بين الكفاح والجريمة.[c1]* نقلا عن صحيفة (الرأي العام) الكويتية [/c]
الفروق العظيمة بين الكفاح والجريمة
أخبار متعلقة