لا نغالي القول أن المثقف العربي اليساري يعيش أزمات فكرية متناقضة منذ تراجع سطوة النفوذ الاشتراكي في العالم نهاية السبعينات من القرن المنصرم ، حتى بلغت هذه التناقضات مدياتها القصوى مع انهيار التجارب الاشتراكية وخصوصا تجربة الاتحاد السوفيتي .قبل الانهيار كان المثقف اليساري يؤمن بالحتمية التاريخية ، ليس من باب الترهات الايديولوجية والفكرية النظرية فقط، وانما بالقدرات المادية التي حققتها تجارب سبعون سنة من البناء الاشتراكي في الاتحاد السوفيتي والدول الاشتراكية الاخرى .ولا نغالي القول أيضا مدى الثقة المفرطة التي لازمت هذا المثقف اليساري ، ايمانا بالنظرية العلمية الاشتراكية ،وشمولية افقها ، وحتمية اكتساح الفكر الاشتراكي مجالات الحياة بمختلف جوانبها للدرجة التي كان هذا المثقف يستهزئ بالتجارب الاخرى على مستوى النظريات ، ويستهزء وان كان في قرارة نفسه لا يبوح به مع التجارب الفردية للاخرين .من، من المثقفين اليساريين كان يولي اسلاميا أو بعثيا أو ليبراليا بعض انتباه ؟! كانت مناوشاتهم الفكرية لدى المثقف اليساري هذيانا أو ترهات في احسن الاحوال هذا في الجانب الافقي من النقاشات والسجالات التي تحصل عادة بين المثقفين ، أما في الجانب التنظيمي العمودي ، كان التربص بالاخرين لا يقل استخفافا، فكم من الاحزاب الشيوعية تبارى لاستحداث جبهات وطنية ، أو تحالفات استراتيجية هدفها زمني لا غير ؛ انطلاقا من قاعدة فكرية تقول ، لا يصح الا الصحيح ، ولا شك ان الصحيح لدى الحزب اليساري كان حتمية شيوع النظرية في المجال الفكري بالاستناد الى فكرة الجدلية المادية التي لا تقهر ، وفي جانبها المادي وجود دولة عظمى بقدرات الاتحاد السوفيتي السابق .اليوم تختلف المعايير ، فهذا المثقف اليساري الذي كان يرى نفسه عملاقا بالمقارنة مع الاخرين صار يعيد النظر بالمسلمات التي آمن بها واعتنقها ، وبات ينظر للاخرين نظرة اخرى مغايرة ، أفقها القبول بالاخر والاستناد الى ما تطرحه الحياة بكل تجلياتها . فصار له الاسلامي ندا والقومي ندا والليبرالي ندا وهكذا ، ولكل هؤلاء الانداد والخصوم ان جاز التعبير امتدادات تعينهم وتمدهم بما يجعلهم يدخلون ساحة الصراع السياسي من أوسع أبوابها عدا هذا المثقف اليساري الذي بات بين ليلة وضحاها عاريا لا يملك غير بقايا نظرية يحاول التمسك بها بعد أن راى ضرورة التخلي عما يشيخ من فكرها .قبل سنين تبرم القرضاوي ، المنظر الديني الرجعي المعروف في احدى حلقات برنامجه المعروف على قناة الجزيرة الفضائية من مواقف اليساريين المؤيدة والمساندة للانظمة العربية في مكافحتها للتيارات الدينية ، أو الوقوف في أفضل الاحوال مواقف المتفرجين مما يجري في الشارع العربي ! مع أن أغلب القوى والاحزاب اليسارية لا تدعم الانظمة العربية ولا تساندها في بعض الاحايين حبا بها وانما خوفا من الهواجس المحيطة بالمشروع الديني الذي يدعو له القرضاوي والتيارات السياسية الاسلامية ، فالمثقف اليساري الحقيقي المواكب لتطورات الحضارة على امتداد التأريخ يدرك ماهية الدين ، ويدرك أيضا ماهية الرجال الذين يقودونه ، وعندما يختلط الدين بالسياسة والحياة تشمل مأساته كل كتلة تنبض بالحياة وقد تطال حتى الكتل الجامدة كما حدث لتماثيل بوذا في افغانستان من قبل أحباب القرضاوي .لا شك ان المثقف اليساري ، يصبح ضحية أولى _ لأي انتصار يقوده التيار الديني وفي أي بقعة من الارض ، ومن يعتقد خلافه له الرجوع ونبش التجارب الحية لانظمة عديدة .هل يستطيع حزب ألله توفير جو من الأمان في الساحة اللبنانية ، أو بمعنى أخر، ما الذي قدمه الحزب المذكور للطبقة العاملة اللبنانية وللمرأة اللبنانية ، غير جعجعة السلاح والتباهي به ، وان أي انتصار له يعني ، زيادة الظغوط على المثقف اليساري والعلماني وعلى المرأة ، وعلى حركة الحياة في كل جوانبها ،قد تكون هذه الزلات بمستوى ترهات لدى تيار أو تيارات عديدة لدى المقارنة مع الانجازات المتحققة حسبهم على سبيل المثال، لكنه يجب النظر لها من باب أخر من قبل المثقف اليساري .ثم ما الذي تستطيع التيارات الدينية في العراق تقديمه للشعب العراقي ، على سبيل الاستشهاد بتجربة اخرى لاتزال ماثلة للعيان ، أبطالها هذه التيارات ؟ فالمثقف اليساري والحزب اليساري خانع في هذه التجربة ، وحتى هذا الخنوع لا يشفع في أحايين كثيرة !للامبريالية وجهها التقدمي شئنا أم أبينا كما تقول الكتب الماركسية ، وكما يلحظ من حركة الحياة ، وعند المقارنة يتفوق هذا الوجه التقدمي للامبريالية ، لان التيارات الدينية يحملون كل سيئات الامبريالية فضلا عن حملهم الوجه الرجعي للحياة وهو العودة الى حيث بدأ التأريخ . [c1][email protected] * كاتب عراقي[/c]
|
فكر
أزمة المثقف اليساري العربي!
أخبار متعلقة