[c1]جميل العودي*[/c] إذا أستقر بنا الحال أن المجتمع المدني هو ذلك المجتمع الإنساني الذي يشغل الحيز الإيجابي بين السلطة والفرد، وليس كل الحيز كما يعتقده بعض المفكرين، وتمثله مؤسسات تعمل باسمه ومن أجله، فان ثمة أسئلة أخرى تراودني حول الأسباب المباشرة التي دعت نفر من الناس يناضلون لأجل إحياء هذه القيم المندثرة بطريقة التنظير والتشجيع على تبنيها. هناك من يؤمن بان فكرة المجتمع المدني ظهرت كنوع من أنواع الحنين إلى الماضي، أي التشوق إلى دفء المجتمعات المحيطة الحاضنة(المتقاربة) التي كانت موجودة في عصر ما قبل الحداثة؛ فالآباء يشعرون أنهم يفتقدون الوقت الذي يقضونه مع أطفالهم؛ لأنهم يقضون وقتلا طويلا في العمل، كما يشعرون بالخوف من فقد السيطرة على أخلاقيات أبنائهم، لان القيم الأخلاقية تنتقل إلى أطفالهم عن طريق قوة خارجة مثل التلفزيون، والانترنيت... ويفقد سكان الأحياء المجاورة التي تنتشر فيها الجريمة اللقاءات الاجتماعية التي تتم على ناحية الشارع أو أمام باب المنزل. ولكن الحنين إلى الماضي لا يعني الرغبة في عودة الماضي كما هو ، حيث يقول بعضهم (نحن لا نريد عودة الخمسينيات، ولكننا نريد إعادة صياغتها ... نحن نريد الاحتفاظ بالشوارع الآمنة والبقال الحسن المعاملة .. بينما نعمل على التخلص من الرؤساء السياسيين ونظارة المدارس الطغاة ..).ينسب بعضهم ظهور فكرة المجتمع المدني إلى أسباب اقتصادية حيث أن الأفكار الرأسمالية قسمت تلقائيا المجتمعات الغربية أو تلك التي دارت في فلكها إلى أغنياء جدا وفقراء جدا، فالأغنياء تزداد أموالهم تباعا، ولا يجدون لها طرقا لإنفاقها إنفاقا صحيحا ومفيدا، بينما الفقراء يزدادون فقرا وجوعا ولا يجدون سبيلا لإشباع بطونهم وكساء ابدأنهم... في ظل هذا الفارق الطبقي، كانت الحكومة عاجزة عن تحصيل أموال الأغنياء لصرفها على الفقراء إلا في حدود الضرائب والرسوم، وهي جزء يسير من واردات أولئك الأغنياء. وبالتالي، انبرت جماعة من الناس، لاسيما رجال الدين الذين ظلوا يحتفظون بروابطهم بالفريقين من حيث كونهم عباد الله إلى حث الأغنياء على توزيع بعض أموالهم على الفقراء، واستثمارها استثمارا غير ربحي قربة لله عز وجل، وأطلق على الجماعات الرابطة بين الأغنياء والفقراء بجماعة المجتمع المدني، حيث تقوم هذه الجماعات بقيادة حملات التبرع وتوزيعها على المستحقين من دون أن تطلب قرشا واحدا. ويتمسك بعض السياسيين بان السياسية كانت وراء ظهور المجتمع المدني، ولم يبرز أنصار المجتمع المدني إلا من خلال نضالهم السياسي ضد السلطة المستبدة؛ فقد عجزت الكثير من الأحزاب والمنظمات السياسية عن تحقيق أهدافها في إضعاف الحكومة أو إسقاطها كحزب سياسي، لان التعاطف مع الأحزاب السياسية من حيث أن لها مصلحة سياسية في معارضة الحكومة كان ضعيفا ويقتصر في العادة على أنصارها ومريديها، وهؤلاء وحدهم لا يقدرون على إسقاط الحكومة المستبدة. أي أن الاهتمام المتزايد بمفهوم المجتمع المدني ومؤسساته يرجع إلى المزاج العام المضاد للحكومة الذي أصبح جزء من الحياة الأمريكية منذ أواخر السبعينيات من القرن المنصرم.لذا فكر المعارضون باللجوء إلى عناوين أخرى غير العناوين والواجهات السياسية، فشكلوا تجمعا لحماية العائلة، وكونوا اتحادا للفلاحين وآخر للعمال، وألفوا رابطة نسوية تطالب بحقوق النساء، ومنظمة للعجزة وكبار السن، ومركزا لحماية الأمومة، ونقابة للمحامين والمهندسين، وهكذا ... فبدأو يمارسون الضغوط على الحكومة من كل هذه الواجهات الاجتماعية، فحدوا من سلطتها، أو قاموا على إسقاطها كما في أوربا الشرقية. وهناك من يعتقد أن جذور العناية بالمجتمع المدني ترجع إلى محاولات النقد الذاتي الذي يقوم به اليساريون واليمنيون والوسطيون الذين لا يجدون غضاضة في مواجهة أدلة قد تكون في غير صالح الموقف الذي يتخذونه في جدالهم.أما نحن فنعتقد أن اعتبار سبب واحد وراء تشكل فكرة المجتمع المدني، لا يستقيم مع الموروث التاريخي للفكرة، ولا يلامس الحقائق الجوهرية التي دفعت عددا غير قليل من الناس الطيبين على تبني هذه الأفكار والعمل على دعمها بالغالي والنفس، لأننا من الصعب جدا أن نتوقع أن يتبرع الواحد منا بأمواله وممتلكاته ووقته وراحته من غير أن يكون هدفه أسمى من كل ما تبرعه به من مال ووقت.ما معنى أن يحن الإنسان إلى ماضيه؟ هو بالتأكيد لا يحن إلى أشياء قبيحة أو دنيئة، بل يستذكر أشياء جميلة يفقدها في حاضره. فما هي تلك الأشياء الجميلة؟وما معنى أن يطرق الأخيار باب التجار، ليأخذوا خبزا وتمرا، ودراهم ودنانير، ويوزعوها على المحتاجين والمساكين والفقراء والمعدومين. ..؟ هم بالتأكيد لا يريدون أن يشبعوا جائعا، أو يكسوا عريانا فقط؛ بل هم يبحثون عن أشياء هي أسمى من الشبع والكساء، فما هي تلك الأشياء؟. نحن نميل إلى تبني كل الأسباب التي أوردناها هنا، ولكن نولي عناية خاص لفكرة أن المجتمع المدني انبثق من غياب القيم الإيجابية في العلاقات الاجتماعية التي تسببت في ضعف الارتباط الاجتماعي للأفراد والعائلات والمؤسسات الصغيرة والكبيرة بما فيها مؤسسات الدولة، فالأفراد بدءوا يشعرون بالانفلات الذاتي ليس عن عائلاتهم وأقربائهم وأصدقائهم وأبناء محلاتهم وزملائهم، وحسب، بل مع أنفسهم أيضا، فالإنسان يحتاج أكثر ما يحتاج وفي مراحل حساسة من عمره مثل الطفولة أو المراهقة أو الشيخوخة إلى من يقف إلى جنبه ويشاركه جزء من همومه، ويتحمل قسطا من مسؤوليته، فإذا وجد الابن أباه منشغلا عنه في أعماله وهمومه، ولاحظ أن أمه لا ترعاه ، ولم يجد صديقا يساعده حبا به، أو يقضى شيخ كبير شطرا من حياته بلا عون أو مساعدة من أبنائه أو جيرانه ... أو تمنع الفتاة من الدراسة، أو تجبر على الزواج من ابن عمها، أو يقتل أحد الناس ولا يحرك أحد ساكنا....فإذا لم نجد من يقف إلى جنبنا في محنتنا، فإننا نفقد حتما تعاطفنا مع الآخرين، ولا نميل إليهم، ولا نتبرع من أجل مساعدتهم... وذلك بسبب سيادة قيم اجتماعية سلبية مثل حب الذات المفرط، والعمل مقابل اجر، وضعف التواصل، والشعور بعدم الحاجة إلى الآخرين، و.... فكيف لنا أن نعيد اللحمة للمكونات الاجتماعية أفرادا وعوائل، وجيراناً ومجتمعات محلة ومناطقية؟ إن مفهوم المجتمع المدني بني على فكرة مفادها: أن هناك مبادئ وقيما إنسانية مفقودة ونريد إعادتها في علاقاتنا الاجتماعية، والدولة (الحكومة ) تعجز عن تلبيتها بشكل كامل بمفردها، كما تعجز مؤسسات السوق الحر عن تلبيتها بمفردها، وذلك لان علاقة الدولة(الحكومة) بالمواطن علاقة سياسية- غالبا- تهدف إلى تحقيق مكاسب سياسية. كما أن علاقة السوق بالمواطن علاقة منفعية -غالبا-تهدف إلى تحقيق مكاسب مادية، بينما الهياكل الوسطية أو مؤسسات المجتمع المدني أو المنظمات غير الحكومية هي مؤسسات المجتمع المحلي نفسه ومرتبطة به ارتباطا كليا فهي منه واليه فهي مثل الأبويين بالنسبة إلى ابنائهما، فهما عندما يقدمان خدمة لا يرجوان منها -على الغالب- مصلحة أو نفعا إلا مصلحة ونفع ابنائهما. خلاصة القول: إن تصاعد مؤشر القيم السلبية، وانخفاض مؤشر القيم الإيجابية هي الأسباب الجوهرية التي كانت وراء ظهور فكرة المجتمع المدني التي تعني بالضرورة البحث عن مجتمع إنساني يؤمن بسيادة المبادئ والقيم والفضائل الإيجابية في العلاقات الاجتماعية. [c1]* محامي يمني[/c]
|
فكر
ما هي أسباب ظهور المجتمع المدني؟
أخبار متعلقة