ربما في الصين فقط، يمكن لك أن تسمع حزباً قام على أساس فكر أيديولوجي يتحدث بحماس عن ‘’تجاوز الأيديولوجيا’’. في الواقع إن تلك هي واحدة من مزايا النسخة الشيوعية الصينية المحدثة. وفي الصين، حيث عمر الحزب الشيوعي يجاوز الثمانين عاماً منذ تأسيسه في العام 1912 وخمسين عاماً منذ تسنمه مقاليد الحكم وإعلان الاشتراكية الشعبية في العام 1949لن تصدف كثيرين يتحدثون بحماس عن أفكار الزعيم الشيوعي الراحل ماو تسي تونغ ودلالاتها التاريخية الحاسمة.وفي الحقيقة، فإنك ستجد العكس تماماً، أن المرجعية الحالية للنخبة الحاكمة تبدأ من الحقبة التي أعقبت وفاة ماو: إصلاحات 1978 وأفكار مهندس الانفتاح الذي قاد الانعطافة الأهم ذي المعنى العميق في تاريخ الصين الحديث دنغ شياو بينغ.وعند التطواف بين شوارع المدن الصينية، بكين أو شانغهاي وسواهما، لن ترى أياً من صور القادة الحزبيين، ولا حتى التاريخيين، تتصدر اليافطات أو رسوم «الغرافيتي’’ على جدران البنايات والمصلحات العامة. وربما تكون صورة ‘’ماو» المعلقة أعلى بوابة القصر الإمبراطوري في قبال ميدان تيانانمين الشهير، الوحيدة لزعيم حزبي التي يمكن لك مشاهدتها.وفي البر الصيني الغربي، شدني فيما كنت أقف لدقائق على ناصية أحد الشوارع الرئيسة لمدينة ‘’ينتشوان’’ ذات الأغلبية المسلمة أن جلّ الشباب المارّين قد اعتمروا بذلاتٍ ‘’على الموضة’’ وسرّحوا شعورهم على وفق «قصّات’’ تشبه القصّات الغربية إلى حدّ بعيد. وحين رحت سائلاً مرافقنا ما إكسوليانغ عمّا إذا كان هؤلاء ينتمون إلى طبقات اجتماعية راقية، أطلق ضحكة خفيفة قبل أن يجيب ‘’لا، إنه الجيل الجديد». ويحلو للجيل الجديد احتساء الكابتشينو من ‘’ستاربكس’’ وأكل الهامبورغر من ‘’ماكدونالدز’’ والدجاج المقلي بالبقصم من «كنتاكي’’ ناهيك عن شرائح المعجنات من ‘’بيتزاهت’’. إن ذلك كان يمكن أن يعدّ «خيانة طبقية’’ لو كانت الثورة الثقافية (1966 ــ 1971) ماتزال قائمة، لكنه اليوم غدا شائعاً. وقد أحصيت ثلاثة أفرع تابعة إلى سلسلة مطاعم ‘’ماكدونالدز’’ على الأقل في شارع واحد بمدينة ‘’شانغهاي’’ غصّت بالمرتادين الصينيين من مختلف الطبقات الاجتماعية.[c1]نظرية القط[/c]ولدى اللقاء بالمسؤولين وحتى القادة الحزبيين، لن تسمع كثيراً الشعارات الأثيرة التي اعتدت سماعها من الأحزاب الشيوعية المنتشرة عبر بقاع العالم. إنها لا تعني أي شيء اليوم مقارنة بالبراجماتية المعبر عنها من خلال ما يعرف لدى الصينيين بـ‘’نظرية القط’’: «القط أكان أبيض أم أسود يظل نافعاً، طالما بإمكانه اصطياد الفئران» !.فحين راح أحد الزملاء في ذروة حماسه يخاطب مسؤولاً صينياً، هو مدير إدارة غرب آسيا وشمال أفريقيا تنج لي، ويستوضحه بشأن بعض المواقع المتعلقة بالحزب الشيوعي، مستخدماً البادئة المعروفة لدى الأحزاب الشيوعية: «رفيق’’ كان الأخير يفرج عن ابتسامة عريضة داعياً إياه في تعقيب أشبه بالدعابة إلى «الانضمام إلى مركزية الحزب الشيوعي الصيني». ويقول تنج لي إنه مايزال «مؤمناً بالفكرة الشيوعية’’. لكنه سرعان ما يستدرك عبر إشارة ذات دلالة لافتة ‘’إن الشيوعية تمثل اليوم نوعاً من اليوتوبيا المثالية التي يظل الإنسان في حاجة لها حتى لو لم تعد موجودة أو تعذر تطبيقها».أما تحديد الأفكار المثالية على أرض الواقع فيقول عنه ‘’إنه أمر يحتاج إلى وقتٍ طويل’’.ويستشهد هاهنا بمقولة منسوبة إلى أحد قادة الحزب الشيوعي ‘’الصين تعيش المرحلة الأولى من الاشتراكية ولاتزال بعيدة جداً عن الشيوعية».في الحقيقة، يظهر القادة الصينيون متحمسين جداً عند الحديث عن النموّ الاقتصادي - الذي فاق الولايات المتحدة العام قبل الماضي 2007 للمرة الأولى منذ العام 1930- أكثر من حماستهم إلى الحديث عن الأيديولوجيا المهيمنة. كما لو أن الشيوعية قد غدت تحصيلاً حاصلاً فيما الانشغال ‘’الجموح’’ بها (قد) يأتي على حساب التنمية. وفي بلد المطلوب منه المواءمة السريعة والمتواصلة بين نسب التنمية وفائض سكاني زاد نحو الضعف خلال نصف قرن (حوالي بليون وثلاثمائة مليون نسمة) فإنه لا وقت يمكن أن يهدر في طريق ‘’الجموح’’ أبداً ولا في أيٍّ من أزقته المتفرعة. إن ذلك يمكن أن يكون تفسيراً لفتور الصينيين عند سؤالهم عن ذلك.وتظهر معدلات النمو الاقتصادي السنوية في الصين ارتفاعاً متوالياً بنسبة 01 %، غير أن الفارق هنا هو تنامي إسهام القطاع الخاص في هذا النمو بعد أن سمحت الدولة لمشروعاته بمنافسة اقتصاديات الدولة. وقد شجعت الدولة المستثمرين في القطاع الخاص حتى بلغ عدد أصحاب المشروعات الخاصة ما يربو على 5,2 مليون من أصحاب المشروعات الخاصة، إضافة إلى نحو 32 مليون صيني يعملون في شركات يديرها أو يشارك فيها مستثمرون أجانب.[c1]الشعارات لا تنقذ[/c]أحد الزملاء أبدى خشيته أمام مساعد وزير الخارجية تشاي جيون من أن ينعكس هذا الوضع سلبياً على ‘’الطبقة العاملة’’، وكان يشير تحديداً إلى ولاية هونغ كونغ التي تدمج بين نظامي اقتصاد السوق والاشتراكية معاً بعد أن تمت استعادتها من السيطرة البريطانية في العام 1997، فما كان من الأخير إلا أن عقب بكلمات قليلة لكن معبرة ‘’الشعارات لن تنقذ الصين». لكن حين راح زميل آخر واصفاً التجربة الصينية بأنها نوع من ‘’الرأسمالية الوطنية’’ أبدى مدير عام الإدارة الثالثة بدائرة العلاقات الخارجية في مركزية الحزب الشيوعي ليو دنغلين اعتراضه بشدة على هذه التسمية. قال ‘’إنها اشتراكية ذات خصائص صينية’’. في الواقع، إن هذه الجملة «اشتراكية ذات خصائص صينية’’ تمثل عصا السحر التي يلقي بها المسؤولون الصينيون في أوجه ضيوفهم لدى استيضاحهم بشأن التناقضات التي تظهر على ملامح نظامهم الشيوعي والتي تفضي به شيئاً فشيئاً إلى شكل من أشكال ‘’الرأسمالية المحسنة». فهم يرون أن إضافة العامل القومي ‘’ذات خصائص صينية’’ قادر على حل جملة المتناقضات التي يفرضها تعاطي الصين مع نظام السوق. إن هذا ما يمكن تلمسه بوضوح من خلال ما يدعى بنظرية ‘’التعبيرات الثلاثة’’ التي أطلقها الرئيس الصيني السابق جيانج زيمين في أثناء مؤتمر الحزب السادس عشر. إذ تشير النظرية إلى ضرورة أن يعبر الحزب الشيوعي في أعماله عن ثلاث مهمات أساسية تحتل فيها ‘’الثقافة الصينية’’ المرتبة الثانية: أولاً، تطوير القوى الإنتاجية الصينية - ثم ثانياً، إبراز تقدم الثقافة الصينية - وأخيراً ثالثاً، حماية المصالح الرئيسة لغالبية الشعب الصيني .ويلفت تنج لي إلى مسألة ذات دلالة في أثناء رده على سؤال ذي علاقة ‘’إن عمر النظرية الماركسية لا يتعدى 200 سنة، في حين أن الثقافة الصينية يناهز عمرها الآن 5000 سنة’’. ويقول «الصين التي نراها اليوم، هي الصين القائمة على أساس متراكم من التاريخ، وفي سياساتنا المعاصرة هنالك العديد من العناصر المستقاة من الثقافة الصينية’’ وفق تعبيره. [c1]الثورة الثقافية.. نكبة[/c]من جهته، يرى ليو دنغلين أنه ‘’بواسطة الاشتراكية ذات الخصائص الصينية استطعنا أن نحقق لفئات الشعب تقاسم ثروة الدولة».وفيما يبدو أن ‘’الخصائص الصينية’’ قد منعت من وقوع الحزب الشيوعي الصيني في الأخطاء التي وقع فيها رفاقه ‘’الألداء’’ في الاتحاد السوفييتي السابق. من ذلك أن غريزته إلى التمدّد أيديولوجياً في الشرق والغرب تبدو اليوم في أشدّ مراحلها ضموراً. وهو يتجه إلى بناء علاقات شاملة مع الدول والأحزاب معاً بغض النظر عن أيديولوجيتها المهيمنة.ولدى سؤال دينغلين عما إذا كان يعرف أن هناك حزباً شيوعياً في البحرين، هو الأول في الخليج، وحزب آخر ارتبط تاريخه بالماوية، لم يبدِ ما يدل أنه على معرفة بذلك. وقال ‘’غير حزبنا أسلوبه في التعاطي مع الأحزاب الأخرى منذ إصلاحات 1987». وأضاف موضحاً ‘’قبل هذا التاريخ كنا نركز على تطوير العلاقات الحزبية مع الأحزاب الشيوعية في العالم. لكن بعد ذلك غيرنا هذا النهج » على ما عبر. ويكشف دنغلين عن أنهم أصبحوا ‘’على قناعة تامة الآن بضرورة تجاوز الأيديولوجيا والتعاون مع الأحزاب التي تحافظ على سلام العالم’’. وقال ‘’قناعتنا الآن تتمثل في عدم التدخل في الشؤون الداخلية للبلدان وأن لها اختيار طرق تحولها بحرية».لكن هناك شيء واحد لم تطلْه حُمّى الإصلاحات في الصين الجديدة. وهم - كما وجدنا - غير نادمين على ذلك أبداً. لندقق في الجملة الصغيرة التالية: ‘’نحتفظ بعلاقات طيبة مع الأحزاب الحاكمة وغير الحاكمة في جميع بلدان العالم عدا الحزبين الجمهوري والديمقراطي في الولايات المتحدة’’. في الواقع، كانت تلك كلمات دنغلين واصفاً علاقة حزبه بالحزبين المهيمنين على الحياة السياسية في أميركا قبل أن يهمّ مطلقاً قهقهة مدوية.وداخل مبنى الإدارة الثالثة بدائرة العلاقات الخارجية التابعة إلى اللجنة المركزية للحزب الشيوعي التي يترأسها دنغلين كان يمكن بسهولة نقد ‘’ماو’’، الزعيم الصيني ذي الكاريزما الساطية والسطوة معاً. قال ‘’علينا أن نعترف أن ماو ارتكب أخطاء فادحة’’ مشيراً على وجه أخص إلى ‘’الثورة الثقافية». ونقل عن مهندس الإصلاحات شياو بنغ قوله ‘’إن الحزب الشيوعي والحزب الصيني يبحثان معاً في طريق طويلة ومظلمة من دون الرفيق ماو». في الواقع، فإن هذه ليست إشارة مستجدة تصدر عـــن الحزب بشأن عملية نقده للحقبة الماوية. إن تاريخ مراجعته لهذه الحقبة يعود حقيقة إلى العام 1891 حين أصـــدر بياناً جاء فيه ‘’إن الثورة الثقافية التي امتدت من شهر مايو/ أيار 1966وحتى أكتوبر/ تشرين الأول 1967، كانت المسؤولة عن أغلب الانتكاسات الخطيرة وأشد الخسارات التي لحقت بالحزب وقادها ماو تسي تونـــغ’’ .[c1]عملية تشبيب النخبة[/c]ويحرص الحزب الشيوعي على ‘’تشبيب’’ نخبه وتجديد الدماء في عروقه، وقد بدا هذا الاتجاه واضحاً من خلال مؤتمر الحزب الأخير والمؤتمر الذي قبله حيث انتهى إلى وضع ‘’لائحة عمرية’’ ترسم بدقة المتوسط العمري لشاغلي مواقعه الشاغرة أو تلك التي في الدولة. وهنا فقد حدد من خلال تقريره السياسي الذي شارك في نقاشه أكثر من 500 عضو على مدى 20 جلسة 52 عاماً زائداً عليها شهادة من معهد عال لمن يشغل عضوية اللجنة المركزية. و 68 عاماً تكون موجبة إلى التقاعد بالنسبة إلى رئيس الدولة و56 عاماً للوزير و 60 عاماً لنائب الوزير. يقول دنغلين «أنا نفسي لا يمكنني الترشح لمنصب نائب الوزير بعد سنتين’’ حيث ذرّف على الخمسين عاماً ونيف فيما العمر المطلوب لذلك هو دون الخامسة والخمسين. في الصّين فقط، ومرة أخرى يمكن لك أن تسمع حزباً قام على أساس فكر أيديولوجي يتحدث بحماس عن «تجاوز الأيديولوجيا’’. حسناً، ربما كان يمكن لهذا الأمر ألا يكون كذلك تماماً لو لم يكن ثمة دولة ولا ثمة حزب حاكم. إنها الحكمة الإنسانية العتيدة: دعهم يحكمون.. ليتغيّروا!. وعلى أية حال، فإن دنغلين ليس لديه اعتراض على ذلك.[c1]عن / صحيفة ( الوقت ) البحرينية[/c]
|
فكر
الشعارات الايديولوجية لا تنفع أحداً
أخبار متعلقة