د.أحمد صبحي منصور*فى هذا المقال سنتناول موضوع الشرعية السياسية التى تحقق بالقوة فكرة معينة وتجعلها بالاستحقاق واقعا بغض النظر عن "الحق " أى العدل والقسط . العدل هو جوهر الاسلام وكل الرسالات السماوية. وفى هذا المقال نضع للحق الالهى أو العدل الالهى أو الشرعية الأخلاقية مصطلح " الشرعية الالهية " مقابل " الشرعية البشرية السياسية ".يؤكد رب العزة علي ان الهدف من ارسال الرسالات السماوية وانزال الكتب السماوية هو اقامة القسط أو العدل يقول الله تعالي (لقد ارسلنا رسلنا بالبينات وانزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط :الحديد25) هذه الآية هى الفيصل فى موضوعنا، ونبدأ بالقسم الأول منها وهو عن الشرعية الالهية ؛وهو أن الهدف من ارسال الرسل بالكتب السماوية هو أن يقوم الناس معا بتحقيق العدل. أى أن تحقيق العدل هو الهدف الأعظم لكل الرسالات السماوية ، وهذا ما ينبغي ان يكون .ثلاث درجات للعدل فى الشرعية الإلهية:وهناك ثلاث درجات للعدل حسب التعامل مع الله تعالى ومع الناس ومع البيئة.1- العدل مع الله ( في العقيدة وفي العبادة)بأن يكون الإيمان والتقديس لله تعالى خالصا لا اله الا هو لا شريك له ،وما عداه من مخلوقات لا تملك لنفسها نفعا ولا ضرا ولا تستحق التقديس والعبادة، وانه ليس لله تعالى ولد ولا والد ولا زوجة. واذا لم يتحقق العدل في التعامل مع الله اصبح ظلما لله تعالى، ومن هنا يوصف الاشراك بالله بأنه ظلم عظيم (لقمان 13) والبشر يختلفون فيي هذه القضية ،ومرجع الحكم فيها لله تعالى وحده يوم القيامة .2 ـ اما العدل مع البشر فيكون بالتعامل العادل مع الناس جميعا ،سواء كانوا من الاقارب والاحباب أم من الخصوم والاعداء (النساء 135،المائدة 8) بل يأتي التركيز علي مراعاة العدل مع الخصوم في العقيدة أي من نعتبرهم كفارا مشركين ، فطالما لم يعتدوا علينا فلابد من مراعاة العدل والبر معهم ( الممتحنة 8) ثم هناك العدل في التعامل التجاري ( البقرة 282،الأنعام 152)والعدل في التقاضي والحكم بين الناس ( النساء 58 ، الشورى 15)والعدل في الشهادة ( الطلاق 2) والعدل في الاحتكام الدولي ( الحجرات 9،الممتحنة 8) والعدل في داخل الأسرة وفي التعامل مع اليتيم ( النساء 3،127)بل العدل في الخصم الذي يعتدي علي دولة المسلمين ( فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم : البقرة 194 ).3 ـ اما العدل مع البيئة فهو باب جديد عرفته البشرية فى عصرنا الراهن ولكن أشار اليه القرآن الكريم من قبل . والمصطلح القرآني يعبر عنه (الميزان ) التي تعني بثقافتنا المعاصرة (التوازن الطبيعي في الكون والبيئة).(الميزان) هو اساس خلق الكون وهو اساس الرسالات السماوية، وهو ايضا اساس الحساب يوم القيامة .والله تعالي يربط بين خلق السماوات والارض وفق توازن دقيق (الميزان ) وبين وجوب ان يعيش البشر مع بعضهم بميزان دقيق عادل يقول الله تعالى ( والسماء رفعها ووضع الميزان ،الا تطغوا في الميزان ،واقيموا الوزن بالقسط ولا تخسروا الميزان :الرحمن (الآية 7:9) وتدبر هذه الآيات يحتاج مجلدات من بحوث العلماء المتخصصين . ان الميزان الالهي تجده في خلق المادة في اوزان العناصر والذرات والمعادلات الكيميائية ،بنفس ما تجده في حسابات الفلك وحركات الكواكب والنجوم ،وعن طريق الحسابات الرياضية توصل اينشتين الي نظرية النسبية قبل ان تتحقق علميا بالتفجير ،وعن طريق الحسابات يتوصل علماء الفلك الى اكتشاف بعض الكواكب ،والله تعالى يشير الي منازل القمر وصلة ذلك بالحساب الفلكي (وقدره منازل لتعلموا عدد السنين والحساب :يونس 25)ويقول عن التقويم القمري والتقويم الشمسي (وجعل الليل سكنا والشمس والقمر حسبانا :الانعام 96)ويقول عن الميزان المحسوب في المواد (وانبتنا فيها من كل شئ موزون )(وان من شئ الا عندنا خزائنه وما ننزله الا بقدر معلوم :الحجر 19،21).وهذا الميزان الدقيق في الكائنات الحية وغير الحية يستلزم عدم المساس به حتى لا يفسد النظام داخل الذرة والعناصر والخلايا والغلاف الجوي .ومن اجل ذلك فان الله تعالى خالق هذا الكون المتوازن ينزل ايضا كتابا سماويا يكون المرجع او الميزان الذي يهتدي به البشر في تعاملهم مع بعض حتى لا يتحول الظلم الى فساد وتخريب للبيئة (راجع ما يحدث في الحروب والجرائم من تخريب )يقول تعالى عن ارسال الرسل ( لقد ارسلنا رسلنا بالبينات وانزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط :الحديد25)وهي نفس الاية التي سبق ان استشهدنا بها وفيها وصف الكتاب السماوى الذى جاء به كل رسول ونبى بأنه "الميزان". فهداية البشر تتحقق باحتكامهم الى ذلك الميزان المكتوب " أى الكتاب السماوى"الذى هو ميزان العدل في التعامل مع الله تعالي والبيئة و البشر. والقرآن الكريم هو خاتم الكتب السماوية وهو المحفوظ الى قيام الساعة، ونزوله فى آخر الزمان البشرى دليل على قرب قيام الساعة ووصول البشرية تمام حضارتها. لذا فان القرآن هو الميزان الخاتم للبشرية فى تطورها الأخير قبل نهاية العالم . نفهم هذا من قوله تعالى لخاتم النبيين عليهم جميعا السلام: (الله الذي انزل الكتاب بالحق والميزان وما يدريك لعل الساعة قريب : الشورى 17)فالقرآن آخر كتاب سماوى نزل ميزانا للعدل بين الناس ،ولأنه آخر كتاب سماوي فإنه يعد دليلا علي قرب قيام الساعة ،وفيها يتم حساب البشر بنفس الحساب الدقيق ،بالعدل المطلق طبقا للكتاب السماوي في كفة ولكتاب اعمال البشر الفردي والجماعي في الكفة الاخرى (الانبياء 47،الاعراف 9)..هذا في الاخرة .أما في الدنيا فان البشر ايضا يلقون جزاء اعمالهم ان خيرا فخيرا وان شرا فشرا، اذ لابد للظالم في الدنيا من عذاب دنيوي قبل الاخرة (آل عمران 56 ،السجدة21،التوبة85،55)وفي المقابل فان الصالحين لهم جزاء دنيوي قبل الآخرة .(النحل 30،41 ،الزمر 10).الا ان الفساد والظلم فىتعامل البشر يؤدي الي الفساد في البيئة اوما نعرفه الآن بالتلوث، فواضح ارتباط الفساد الخلقى والسياسى بانتشار التلوث . جرائم السرقة والحروب والاستغلال السىء للموارد والتلاعب بها ـ كلها تؤثر فى المناخ وتزيده تلوثا. ثقب الأوزون هو احدث صرخة احتجاج من الطبيعة جعلت البشرية تتسارع الى عقد قمة الأرض لعلاج هذه الأم الرءوم مما فعله به أبناؤها فى البر والبحر والفضاء. ومن عجب ان يشير القرآن منذ الف واربعمائة عام الى مسئولية الفساد البشرى ـ أو الظلم البشرى ـ عن افساد البيئة وتلوثها ،يقول تعالى (ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت ايدي الناس ليذيقهم بعض الذي عملوا لعلهم يرجعون:الروم 41). أى أن انتهاك الميزان الالهى فى العقيدة والأخلاق ـ وهى الشريعة الالهية الأخلاقية ـ أنتج خرقا فى الميزان الطبيعى وأحدث تلوثا وفسادا للمناخ والبر والبحر والجو والمادة الحية والمادة الجامدة.وقد تنبه حكماء العالم اليوم الي ان حماية الارض من التلوث يستلزم اقامة العدل علي المستوي العالمي والمستوى الاقليمي والمستوى المحلي داخل كل بلد، وهذا ما تمخض عنه تفكير البشر الراقي مؤخرا من أن سلامة الأرض والبيئة مرتبط بتحقيق العدل بين الناس منعا للحروب والقلاقل والثورات والجهل والجرائم، وهو محاولة للوصول الي ما ينبغي ان يكون ،والذي اشارت اليه الاية الكريمة والتي تجعل تحقيق العدل هو الهدف الاساسي من ارسال الكتب السماوية وارسال الرسل والانبياء (ليقوم الناس بالقسط) أي ليتعاونوا فيما بينهم في تحقيق العدل . الانسان وحده فى هذه الأرض هو الذى حمل أمانة التكليف والمسئولية ( الأحزاب 72). التكليف يعنى انزال الكتب السماوية بالأوامر والنواهى للرقى بالانسان ، وحرية الانسان فى الطاعة أو المعصية ، فى الايمان أو الكفر ، فى تقديس كلام الله تعالى أو فى الكذب على الله تعالى وتزييف شرعه والاغتراء على رسله وكتبه. والميزان الالهى كما عرفنا نوعان : ميزان مكتوب ،هو فى الكتب السماوية ـ وخاتمها هوالقرآن الكريم ـ وميزان منشور وهو فى الكون المحيط بنا وفى داخلنا، يبدأ بالذرة والخلية الحية ولا ينتهى بالمجرات وما وراءها من مادة وطاقة. هذا الكون الهائل لا عقل له ، قد خلقه الله تعالى على أساس الطاعة فقط ، فلا يستطيع الاليكترون أو القمر أو الشمس أو أى كوكب أونجم أن يخرج عن المدار المحدد له سلفا. كل ما فى الكون قد سخره الله تعالى للانسان ،( الجاثية 13 ) للانسان مطلق الحرية فيما يفعل بنفسه أو بغيره ، كما أن له مطلق الحرية فى طاعة ربه جل وعلا أو عصيانه. وفى مقابل هذه الحرية سيتعرض للحساب بعد أن يدمر الله تعالى هذا الكون ويأتى اليوم الآخر الذى " يفرض " الله تعالى الحساب على البشر فيما قدموه لأنفسهم فى اختبار الحياة الدنيا، وهل حافظوا على الميزان أم طغوا فيه .الكون بكل ما فيه من طاقة ومادة وابداع لا يتمتع بالتكليف والحرية والمسئولية، ولكن الانسان ـ ذلك المخلوق الضئيل ـ يتمتع بالتكليف والحرية والمسئولية. ومن أسف فانه يستخدم حريته للاضرار بنفسه وبالبيئة التى تضمه ، وقبل هذا وذاك فى ظلم الخالق جل وعلا حين يتخذ آلهة معبودة من احجارالبيئة المسخرة له ، او من عناصر الطبيعة المخلوقة لأجله. هنا يتعاظم التناقض بين الشرعية الالهية وميزانها الحساس وبين الشرعية السياسية التى يقيم بها الانسان واقعا سياسيا على الأرض.استحالة التطبيق الكامل للشرعية الالهيةالشرعية الدينية الالهية هى اقامة العدل البشري بنفس الميزان الدقيق الذي نراه في التوازن القائم في الكون الذى لا يملك القدرة على العصيان.ومن الطبيعي ان تحقيق هذه الدرجة من العدل مستحيل على البشر،لأننا بذلك نتحول الي ملائكة لا نخطئ ،ونتناسى ان النفس البشرية مخلوق علي اساس الفجور والتقوى فهى تقبل هذا وذاك ثم يأتي اختيار الانسان لأحدهما ،أن يكون فاجرا فيخسر أو ان يكون متقيا فيفلح (الشمس7،10) و نتناسي وجود الشيطان ومهمته الاساسية في اغواء البشر بكل وسيلة وتأكيد القرآن علي نجاح الشيطان في اغواء اكثر البشر (الاعراف 16،17 ،الاسراء 62،65) وتأكيد القرآن علي ان اغلبية البشر ضالة مضلة تتبع الهوى (الانعام 116) (وراجع كلمة اكثر في المعجم المفهرس لألفاظ القرآن الكريم )ونتناسى اخيرا ان العدل المطلق وما ينبغي ان يكون ليس له مكان في الدنيا، والا ما كانت هناك الاخرة والحساب والثواب والعقاب .ومن هنا فان امال الفلاسفة في المدينة الفاضلة تظل مجرد آمال واحلام لا يمكن تجسيدها بالكامل علي ارض الواقع ،ويصبح من الاجدى محاولة الاقتراب من تحقيق اكبر قدر متاح من العدل أو من الشرعية الدينية التي نزلت بها الرسالات السماوية .ومحاولة الاقتراب هذه تستلزم وعيا جماهيريا يدفع الناس للتعاون فيما بينهم في اقامة وتأسيس العدل ،وذلك معنى (ليقوم الناس بالقسط) أي ليتعاونوا في اقامة القسط ،وفق وعي مشترك بأهمية العدل للفرد وللجماعة معا . هذا التحقيق البشرى للعدل يستلزم قوة للتحقيق أو الاستحقاق. هنا ندخل على الشرعية السياسية.الشرعية السياسية للنضال من اجل العدل :ومن الغريب ان الاية نفسها تشير الي الشرعية الدينية (ما ينبغي ان يكون وهو اقامة العدل الكامل )وذلك في مقدمتها ، ثم تشير فى بقيتها الي الشرعية السياسية ،أو محاولات البشر للوصول لهذا العدل بالقوة الحديدية ،عبر نضال يقوم علي السلاح أو الحديد ،والحديد ايضا منزل من السماء ( وتلك حقيقة علمية )كما نزلت الرسالات السماوية من السماء .تقول الاية (لقد ارسلنا رسلنا بالبينات وانزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط .وانزلنا الحديد فيه بأس شديد ومنافع للناس ،وليعلم الله من ينصره ورسله بالغيب ، ان الله قوي عزيز )أي انه :إذا لم يتحقق العدل وفق الرسالات السماوية وميزانها فالسبيل هو الحديد ذو البأس الشديد . وحين يستخدم الحديد لتحقيق العدل او الوصول الي شرعية سياسية تحاول الاصلاح فأنه يكون نافعا للناس. ولأن الامر يتوقف علي ضمائر الثوار المجاهدين في سبيل العدل فان الله تعالي وحده هو الذي يعلم غيب قلوبهم ،اذا كانوا يريدون فعلا ان ينصروا الله ورسوله في تحقيق العدل بين الناس ام لا .واذا حدث العكس وسكنوا في مساكن الذين ظلموا انفسهم فإن الامر يستلزم ثورة جديدة ،وهكذا يستمر الجدل الانساني بالقلم والسلاح لتحقيق العدل في الشرعية السياسية التي تعبر عن حلم الإنسان المتكرر في تحقيق العدل أو الشرعية الدينية التي تعبر عما ينبغي ان يكون.ومن خضم هذا الصراع المتكرر قد يتسلط الظالم علي ظالم آخرحين لا يستطيع المظلومون الثورة على الظالم المحلى فيأتى ظالم خارجى أو مصلح خارجى يعصف بالظالم المحلى، وقد يثور المظلوم على الظالم اذا ضعف الظالم ووجد المظلوم أملا وعونا فى الثورة عليه ، وبكل هذه الصورتتهاوى باستمرار عروش الظلم حتى لا يتحكم الفساد في الارض الى الابد، وهذا معني قوله تعالى (ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الارض:البقرة 251).مشيئة الإنسان هي الأصل في الهداية وارادة التغيير :وقد قلنا ان العدل درجات، وان الدرجة العليا فيه هي في التعامل مع الله بمعنى الا نظلم الله تعالى في اتخاذ شريك له وهو وحده الخالق المسيطر الذي لا يشرك في حكمه احدا (الكهف 26) وهذا العدل يستلزم هداية الى الحق تقوم على الفطرة السليمة .وهذه الهداية تبدأ باختيار الإنسان ،فالانسان يفكر بعقله مهتديا بفطرته السليمة يحاول الوصول الي الحق بموضوعية ،وعلي اساس هذا الاختيار الانساني للهداية يرشده الله تعالي الي الهداية ،أي تأتي مشيئة الله للهداية تالية ومؤكدة لمشيئة الانسان واختياره طريق الهداية ،وفي ذلك يقول الله (تعالى ويزيد الله الذين اهتدوا هدى :مريم (67) ويقول والذين اهتدوا زادهم هدي وآتاهم تقواهم :محمد (17).وفي المقابل فأن الذي يختار الضلال تأتي مشيئة الله تؤكد علي الذي اختاره من ضلال (قل من كان في الضلالة فليمدد له الرحمن مدا : مريم (75) في قلوبهم مرض فزادهم الله مرضا :البقرة (10).وفي الحالتين فان من يشاء الهداية من البشر يشاء الله هدايتة ،ومن يشاء من الناس الضلالة يشاء الله ضلالته ،يقول الله تعالي (فان الله يضل من يشاء، ويهدي من يشاء فلا تذهب نفسك عليهم حسرات :فاطر 8)(قل ان الله يضل من يشاء ويهدي اليه من اناب :الرعد (27 ).باختصار فان اقامة العدل مع الله تعالى ( أي الهداية )يتوقف علي مشيئة الفرد وارادته الحرة ؛هو الذي يقرر ويشاء الهداية وتأتي مشيئة الله لتؤكد علي هذا القرار، وقد يستلزم هذا الاختيار جهادا ونضالا ،وتكون هداية الله و إرشاده قريبة من هذا الجهاد ،يقول تعالى ( والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا وان الله لمع المحسنين :العنكبوت(69). هنا المشيئة الفردية، أى أن كل فرد مسئول عن الهداية مسئولية شخصية ، وليس من مهام المجتمع أو الدولة هداية الفرد أو ادخاله الجنة وانقاذه من النار. الفرد هو المطالب وحده بالصلاة والخشوع فيها ، وهو وحده المطالب باخلاص الدين لله تعالى ، وعلاقته بربه علاقة مباشرة سواء عصى ربه أم أطاع وأناب. هو وحده الذى يملك القرار بأن ينهى نفسه عن الهوى أو أن يعبد هواه ( النازعات 37 ـ 41) ، هو وحده الذى يقرر أن يزكى نفسه ويسمو بها أو يهبط بها الى حضيض الرذيلة ( الشمس 7 ـ 10). وفى كل الأحوال فليس له الا سعيه ان خيرا وان شرا، ولا تزر وازرة وزر أخرى..وايضا فان اقامة العدل مع الناس ومع البيئة تستلزم مشيئة الناس وارادتهم، الا أن الارادة هنا ليست مجرد ارادة فردية ولكن لا بد أن تكون ارادة جماعية، وهذا معنى قوله تعالى "ليقوم الناس بالقسط " أى كل الناس فى المجتمع من غنى وفقير وأمير وأجير وذكر وأنثى وكبار وصغار ومن كل الأعراق والملل والنحل والأديان. طبقا لثقافة المواطنة والمساواة والعدل بين كل الأفراد ـ كلهم مطالبون معا باقامة القسط فيما بينهم. هذه هى الارادة الجمعية لكل أفراد المجتمع وليس لفرد واحد.لا بد للجميع من ارادة موحدة لتحقيق القسط ،وبقدر تكاتف الجماهير خلف الارادة الجماعية لتحقيق العدل يمكن النجاح في تحقيق العدل بأقل قدر ممكن من الخسائر .ولكن السؤال الهام هنا كيف ينجح الناس علي حمل انفسهم علي المبادرة بالنهوض لتحقيق العدل ضد الظلم السائد ؟كيف يترك الناس القيم الاجتماعية الهابطة مثل الخنوع والسلبية والتواكل ليستبدلوها بقيم سامية هي الايجابية والحرية والشجاعة والحرية والتضحية والفداء وحب الحق والدفاع عن العدل؟ان الاجابة هنا تكمن في التغيير،تغيير النفسية أو الذهنية ،وهذا التغيير يستلزم مشيئة حازمة قادرة فاعلة ،فان شاء الناس تغيير ما بأنفسهم من خنوع وخمول وتواكل وسلبية وقرنوا المشيئة بالعمل نجحوا ..وهنا تأتي مشيئة الله تالية لمشيئة الناس وهذا معني قوله تعالى (ان الله لا يغير ما بقوم حتي يغيروا ما بأنفسهم :الرعد 11)أي هي نفس القاعدة ان اقامة العدل مع الله تستلزم اختيار الانسان للهداية ثم تأتي ارادة الله لتؤكد هذا الاختيار الانساني ،واقامة العدل بين الناس ومع البيئة تستلزم تغييرا في الذهنية يقوم علي اختيار انساني حازم ،وتأتي مشيئة الله مؤكدة وتالية لهذا الاختيار البشرى ..وعليه فأن حركة الانسان نحو تحقيق العدل هي اختيار بشري يؤكده اختيار الله تعالي ومشيئته ...وهذه الحركة تتم في اطار الشرعية السياسية التي قد تهدف أحياناالي الوصول والاقتراب من الشرعية الدينية الالهية التي هي ما ينبغي ان يكون.شرعية الحاكم أو شرعية الثورة عليه مرتبطة بإرادة الناس: فماذا اذا اختار الناس السلبية والخنوع والرضى بظلم الحاكم ؟هنا ايضا تكون الشرعية السياسية في ادنى صورها .فطالما ارتضى الناس الخضوع لحاكم ظالم فهذا هو اختيارهم وتأتي مشيئة الله لتؤكد علي هذا الاختيار الذي لا يرضاه الله تعالى .ان الله تعالى لا يرضي ان يكفر به عباده (ان تكفروا فان الله غني عنكم ولا يرضي لعباده الكفر وان تشكروا يرضه لكم :الزمر (7)ولكن يشاء للكافرين ضلالهم طالما ارتضوا لانفسهم الضلال (كذلك يضل الله من يشاء ويهدي من يشاء:المدثر (31).والله تعالي لا يريد الظلم في الارض (وما الله يريد ظلما للعالمين :آل عمران (108)(وما الله يريد ظلما للعباد :غافر(31) ولكن طالما رضي الناس تحمل الظلم واعترفوا بشرعية الظالم ملكا عليهم فان الله تعالي يعترف به حاكما عليهم .ومن هنا ارسل الله تعالي موسي وهارون رسولين الي فرعون اعتى الظالمين ظلما ،و اوصاهما بأن يقولا له قولا لينا لعله يتذكر او يخشي (طه 44) ووصف الله تعالي بعض الحكام بأنهم ملوك ،ومنهم ذلك الملك الذي ادعي الالوهية ودخل ابراهيم عليه السلام في جدال معه (الم ترالي الذي حاج ابراهيم في ربه أن اتاه الله الملك ،اذ قال ابراهيم ربي الذي يحيي ويميت قال انا احيي واميت ..) الى ان يقول تعالي عن ذلك الملك (فبهت الذي كفر والله لا يهدي القوم الظالمين :البقرة 258).فنحن هنا أمام مدعي للالوهية يصفه الله تعالي بالكفر والظلم .ولكنه يصفه ايضا (انه اتاه الله الملك)وقد اعطاه الله الملك لأن الشعب رضي به واختاره ،فجاءت مشيئة الله تالية لاختيار الناس.ان هذه الحياة الدنيا قائمة علي اساس الاختيار (حرية الاختيار بين الايمان او الكفر ،بين الرضي بالقهر او الثورة عليه )وتأتي مشيئة الله لتؤكد علي ما يختاره الفرد والناس ،وهنا يكمن الاختبار في ذلك الاختيار .ثم يأتي يوم الحساب ليلقي كل إنسان نتيجة عمله حسب الشريعة الدينية الالهية ،وحيث يتحقق فعلا ما ينبغي ان يكون .الفارق بين الشرعية الإلهية الدينية والشرعية السياسية البشرية :ونخلص من ذلك ان الشرعية الإلهية الدينية الأخلاقية( ما ينبغي ان يكون)أمل عزيز المنال لا يمكن تطبيقه بالكامل او تحقيقه مائة فى المائة في هذه الدنيا ،اما الشرعية السياسية فهي في احسن حالاتها محاولة الوصول الي اقرب تطبيق للشرعية الالهية الدينية ،وهي في اسوأ حالاتها الرضي بالظلم والقهر والتعايش معه وممارسته .وانه في اطار هذه الشرعية السياسية العملية تأتي مشيئة الله تؤكد ما اختاره الناس ايجابا او سلبا ،في الهداية او في الضلال ، هذا في الحياة الدنيا ،اما في الاخرة فتأتي الشرعية الالهية الدينية لتطبيق يوم الدين أي اليوم الذي يطبق فيه دين الله تعالي بأقصى تمام العدل حيث يقول الله تعالي (اليوم تجزى كل نفس بما كسبت لا ظلم اليوم :غافر (17).الشرعية السياسية البشرية وانواع التدين البشري: العلمانية والدولة الدينية قلنا ان الشرعية الدينية الالهية هي الرسالات السماوية التي تهدف للعدل مع الله وبين الناس ومع البيئة وفق ما ينبغي ان يكون .اما ما هو كائن وواقع فعلا فهوالشرعية السياسية البشرية، أو هو التطبيق البشري للعدل في التعامل مع الله ومع الناس ومع البيئة ،سواء كان هذا التطبيق يحاول الوصول الي للعدل ام منافيا له ،أي سواء كان ظلما لله تعالي والعالمين والبيئةأو محاولة للحد من هذا الظلم وتحجيمه .والشرعية البشرية معترف بها كواقع طالما كان يعبر عن رضى الناس ،فىالخنوع للظلم وعدم الثورة عليه، فاذا ثار الناس ونجحت الثورة ونجحت فى ابادة النظان القديم واسست لها واقعا مسيطرا رضى به الناس نالت الشرعية السياسية برضى الناس عنها وتقبلهم لها .سهولة الفصل بين الشرعية الدينية والشرعية السياسية في الدولة العلمانية:ويظل الأمر سهلا طالما يمكن الفصل بين الرسالات السماوية (الشرعية الالهية الدينية وما يجب ان يكون )وبين التطبيق البشري سواء كان أو مع ضد الرسالة السماوية كما هو في النظم السياسية العلمانية التي تفصل بين الدين والسياسة .ففي احسن صور العلمانية يتم تحقيق قدر اكبر من الليبرالية والديمقراطية وحقوق الانسان بعيدا عن الرسالات السماوية واعتمادا علي العقل والوعي البشري ووفقا للمنفعة المشتركة . وفي اسوأ صور العلمانية ايضا وتحت شعارات شتى من الوطنية والقومية والبروليتاريا تسود الديكتاتورية والفساد وتضيع حقوق الانسان ،وتجارب الدول الشيوعية والديكتاتورية العسكرية خير شاهد علي ذلك . وفي كل الاحوال لا يحتاج الحاكم العسكري او الشيوعي كما لا يحتاج الحاكم المنتخب ديمقراطيا الي تبريرات او تفسيرات دينية .وفي كل الاحوال فان رضى الشعب او ثورته تتم كلها في اطار شرعية سياسية لا تختفي خلف شعارات دينية تخلط الدين بالسياسة وتتلاعب بهما معا. صعوبة الفصل بينهما في الدولة الدينية التي تسعى الي تحوير الرسالة الالهيه لتلائم سياستها :ولكن يصبح الأمر معقدا اذا تمسحت الشرعية السياسية بالدين وحاولت تطويع الرسالة السماوية لتناسب الواقع الاجتماعي والسياسي مع النظام السائد أو ضد النظام السائد .وهذا التطويع يأتي عبر التحريف للرسالة السماوية و اضافة مصادر بشرية ونسبتها الي صحيح الدين، وبذلك يتحول الدين الإلهي في صوره البشرية الي نوعيات مختلفة من التدين ،لكل تدين اسفاره المقدسة وائمته المقدسون، ولكل تدين ظروفه السياسية التي ادت الي نشأته وساهمت في تطوره ...ينطبق هذا علي تاريخ اليهودية والمسيحية وتاريخ أوروبا في العصور الوسطي قبل ان تختار العلمانية .وينطبق ايضا على تاريخ المسلمين .باختصار فان علي البشر ان يطوعوا طريقة حياتهم لتتفق مع العدل الذى نصت عليه النصوص السماوية وتعبر عنها بأقصي ما يمكن ..ولكن حين يستخدم الدين في السياسية يحدث العكس ،وهو تطويع الرسالة السماوية لتتفق مع اهواء البشر ، ويتم هذا التطويع عبر الاضافة والحذف من والي الرسالة السماوية ونسبة الكلام البشرى الي الوحي الالهي عبر احاديث نبوية قدسية او تفسيرات وتأويلات مقدسة .باختصاراكثر لابد ان تخضع الشرعية السياسية الي الشرعية الدينية الالهية ولكن يحدث العكس حين تتمسح الشرعية السياسية في الحكم او الساعية للحكم بالشريعة الالهية الدينية فتخضعها لمتطلباتها . وهذا هو موجز التاريخ الديني للبشر ،أو تاريخ التدين البشري وعلاقته بالرسالات السماوية حتي خاتم الرسالات وخاتم الانبياء محمد عليه وعليهم السلام .وللحديث بقية بعون الله تعالى,* مفكر مصري
|
ابواب
بين الشرعية الإلهية والشرعية السياسية
أخبار متعلقة