الآن وبعد أن هدأت العاصفة ، وإن قليلا ، ومع سهولة التنبؤ بالعودة إلي هبوبها مرة ومرات . وإذ يتعين علينا برغم كل ما كان أن نواصل الحوار حول المزيد من حرية التعبير وتحرير الصحفي من الخوف إذ يمارس مهنته . فإننا بهذه الكتابة ندعو إلي فتح حوار جديد حول هذا الأمر كي تستقر مفاهيم محددة حول ما هو صحيح وما هو خاطئ .. وما هو موجب للحساب أو موجب للعقاب .. وكي نعود فنحاول أن نتحول بما نصل إليه من مفاهيم إلي قواعد ملزمة لجميع الأطراف . ونتذكر كمحاولة لتقديم مثال علمي ، كيف أن ثورة يوليو أعلنت منذ يومها الأول أنها تسعي لتحقيق ديمقراطية سليمة .. وقد كانت هذه الكلمة المطاطة هي محور كل الصراعات وربما كل الأخطاء التي وقع فيها رجال يوليو علي مدي حكمهم فما هو سليم في نظرهم كان مختلفا عما تصوره الآخرون . كذلك يجري الحديث اليوم عن ممارسة الصحافة للحرية المسئولة وهي كلمة مطاطة هي أيضا إن أمسكت بالزئبق يمكنك الإمساك بها . ولهذا وجدنا من الضروري إعادة فتح هذا الملف بهدوء .. وبعد أن هدأت العاصفة التي نخشي أن تتجدد مرة أخري ومرات عديدة كي يكون بالإمكان النظر الهادئ لما نحتاج إليه .. صحافة حرة ، وحقوق مصونة للأفراد . وابتداء نقرر أن حقوق الصحفيين في التعبير والنشر مسألة مفترضة ، بل ومفروضة بنصوص دستورية حاسمة . لكن المشكلة التي تستحق دراسة متأنية ، ونقاشا مستفيضا ، هي تلك المساحة الغامضة بين إطلاق حرية الصحفي في الكتابة وبين حقوق الآخرين الذين يتلقون هذه الكتابة ، أو تمسهم مفرداتها سواء في أشخاصهم أو مهامهم أو سمعتهم أو شرفهم . الصحفيون يستندون دوما إلي حقهم في نقل الخبر .. وحق القارئ في معرفته . وهنا يقع اختلاف في تحديد تعريف دقيق لما هو الخبر ، وأعتقد أنه يمكن اتخاذ التعريف التالي هو الإعلام عن فعل جدير بالمعرفة حدث أو سيحدث .. ولكن هذا التعريف يثير جدلا صاخبا ، فعبارة جدير بالمعرفة تستثير خلافات عديدة . جدير بالمعرفة .. لماذا؟ ولمن؟ وعلي حساب من؟ ولمصلحة من؟ وجدير بالمعرفة في أي مجتمع؟ وتجاه أي تقاليد أو تعاليم دينية؟ .. فالصحافة الفضائحية أو تلك التي تسمي أحيانا بالصحافة الشعبية ( وهي تسمية خاطئة بكل المقاييس ) أو تسمي أوروبيا الباباروتي تعتبر أن أدق خصوصيات أشخاص وفئات معينة ( الفنانين ـ السياسيين ـ المسئولين ـ الرياضيين ـ رجال الأعمال .. إلخ )، هي بالضرورة ملك للجميع ، أو بالدقة ملك لهذه الفئة من الصحفيين يتخذون منها سبيلا لزيادة توزيع صحفهم ..( أليست هي الأكثر توزيعا بالفعل؟ ). ولكن ، وعلي الطرف الآخر ، نجد أن الكثيرين يتضررون ، ويساء إليهم من نشر مثل هذا النوع من المعلومات التي نعتقد نحن أنها ليست جديرة بالمعرفة لدي الغير ، لأنها تمس خصوصيات الإنسان ، أي حقه في العيش دون أن ينتهك إنسان آخر حياته المسالمة . وهذا ما تؤكده ( دون جدوي ) العديد من المواثيق الدولية . ففي العهد الدولي لحقوق المدنية والسياسية تنص م 17 علي أن لكل شخص الحق في الحماية القانونية ضد التعدي علي شرفه وسمعته . ويؤكد الإعلان العالمي لحقوق الإنسان في م 12 أنه لايجوز إخضاع أي شخص للتدخل المتعسف في خصوصيته ، أو عائلته ، أو منزله ، أو مراسلاته ، ولا للتعدي علي شرفه أو سمعته . لكن هذه الحماية تتفاوت .. فالمسئولون والجهات الحكومية الإدارية والسياسيون وجميع من يتصدون للعمل العام ، هم بالضرورة أقل قدرة علي الاستمتاع بهذه الحماية .. وقد استقر الفقه سواء في مصر أو العالم علي هذه الحقيقة . ويكاد جميع الدارسين لهذا الموضوع يكررون في كتاباتهم عنه قول الفقيه القانوني بارتلمي : لا جدال في أن للشخص العادي الحق المطلق في أن يترك وشأنه ، ولكن في ظل الديمقراطية عندما يقدم المرء نفسه إلي مواطنيه بأنه جدير بأن يحكمهم ، فلا أعتقد أن له الحق في إقامة الحواجز والخنادق حول نفسه ، وأن يصطنع مناطق محرمة حول تصرفاته ، فإن من يهب نفسه يهبها بالكامل . وهذا ما يؤكده أيضا الفقه المصري في هذا الصدد ، إذ يؤكد أن درجة تحمل الشخص العمومي تتناسب طرديا مع نوع المسئولية التي يتولاها وجسامتها ، فكلما كان الموضوع الذي تصدي له حساسا ومتصلا بعواطف الجمهور ، وكلما كانت المسئولية التي يتحملها جسيمة ، زاد ما ينبغي أن يتحمل من وطأة حرية الفكر فيما يتعلق بالشئون العامة للرجل العام .. ويجب أن يسلم بإمكان أن يحكم عليه بعض الناس وهم في حدود حسن النية حكما قد يكون مبناه إساءة الظن ، نتيجة للقلق الطبيعي علي ما يعتقدون أنه حيوي بالنسبة لهم .. ذلك القلق الذي هو مظهر لشدة شعور المواطن بواجبه العام ( د . محمد عبدالله ـ جرائم النشر ـ ص 114). ونتأمل هذه العبارة .. فحتي الشخص العام تحصن حياته الشخصية ، وإنما يكون التعرض له في حدود الشئون العامة للرجل العام ، كما يجب أن يكون الحكم في حدود حسن النية المبنية علي قلق ناجم عن شدة شعور المواطن بواجبه العام . وهي حدود كثيرا ما يتم تجاوزها عند التعرض للشخص العام . وتعبير حسن النية هنا يعني أنه يتعين ألا يكون هناك سوء قصد لدي الصحفي ، وإنما أن يكون وبحسن نية قلقا علي عدم تحقق مصلحة عامة نتيجة لتصرف ما لشخص عام . لكن مثل هذه المساحات من الكتابة تثير قضية ربما كانت أكثر تعقيدا .. وهي : علي من يقع عبء إثبات مدي صحة الوقائع التي نسبت إلي شخص ما وكانت ماسة به أو بسمعته أو شرفه؟هنا يتعين علي النيابة العامة في حالة رفع الدعوي .. استكمال التحقيقات وإلزام جهة الإدارة بتقديم المستندات الدالة علي صحة أو عدم صحة الواقعة المنسوبة إليها أو إلي أحد رجالها .. ذلك لأن مهمة النيابة العامة ليست فقط إثبات التهمة ، بل إن وظيفتها هي إثبات الحقيقة بجميع صورها ، وعلي المحكمة أيضا أن تثبت بنفسها من خلال إجراءات المحاكمة هذه الحقيقة ، دون أن تجشم المتهم عبء إثبات براءته ، فهذه البراءة أمر مفترض ولا محل لإثباتها أمام المحكمة ( د . أحمد فتحي سرور ـ الحماية الدستورية للحقوق والحرية ـ ص 750). لكن ذلك لا يعني أن يقول الصحفي ما يشاء ويوجه ما يشاء من اتهامات مخليا مسئوليته عن إثبات مدي صحتها .. فعلي الصحفي أن يقدم بيانا بالأدلة علي صحة وقائع القذف مثل صور المستندات وأسماء الشهود ، وبعد ذلك يترك الأمر للنيابة التي تقوم بتحقيق هذه الأدلة ، حيث تستخدم سلطاتها لاستدعاء الشهود ، وطلب أصل المستندات الدالة علي صحة وقائع القذف ، وتحقيق هذه المستندات ( د . محمد باهي أبو يونس ـ التقييد القانوني لحرية الصحافة ـ ص 441). كذلك فإنه علي الصحفي في واقعة تصديه بالقذف في حق أحد الأشخاص العامة أن يقدم ما يدل علي أمرين مهمين : ــ صحة الوقائع ( يقترب من إثبات ذلك ولو بصفة أولية ). ــ حسن النية : بمعني أن يعتقد الصحفي بمشروعية وصحة ما يقول ، وأن يكون اعتقاده مبنيا علي أسباب معقولة . ذلك أن ركن حسن النية في جريمة القذف يتمثل في أن يكون الطعن صادرا عن حسن نية ، أي الاعتقاد بصحة وقائع القذف ولخدمة المصلحة العامة ، وليس عن قصد للتشهير والتجريح ( نقض 22 ـ 12 ـ 1959 ـ سنة 10 قضائية ). كذلك فإن حصانة الشخص العادي ضد القذف تزداد مناعة ، ويحصنها أيضا افتقاد الشخص العادي للقدرة علي تقديم ما يدل علي براءته مما هو منسوب إليه .. خاصة إذا كانت التهم أخلاقية ، فكيف يمكن لشخص أن يثبت أنه ليس لصا؟ .. أو أنه ليس غبيا؟ .. أو ليس زير نساء؟كما أن هناك مسألة أساسية : هي ما يتعلق بالأخلاق العامة . وتركز المواثيق والعهود الدولية علي أهمية حماية الأخلاقيات العامة .. حماية للمجتمع من أن تصيبه بعض الكتابات الصحفية بالضرر . ويتفق الكثيرون علي اتساع السلطة التقديرية الممنوحة لجهة الإدارة أو للمحكمة في مواجهة النشر الضار بالأخلاقيات العامة . هنا تنشأ مسألة بالغة الأهمية ، وهي متعلقة بالفارق الديني والأخلاقي من مجتمع لآخر .. وهكذا تنشأ مشكلات حقيقية عندما تحاول بعض منظمات المجتمع المدني الأجنبية أو حتي بعض الجهات الرسمية أو البرلمانية في الخارج فرض معايير غير مصرية للمعتقدات والأخلاقيات ، كنموذج .. إذا نشرت صحيفة أوروبية أن السيدة فلانة تقيم مع صديقها في المكان الفلاني وأنها تنتظر مولودا في القريب العاجل .. هذا الخبر عادي جدا وفقا للمعايير الأخلاقية الأوروبية ، ولا يخضع ناشره لأي مساءلة ولا حتي لأي عتاب ، بينما يمثل نشره في مصر كارثة بكل المعايير ، سواء للقارئ أو للسيدة التي أشار إليها الخبر ، أو حتي بالنسبة للقانون . وهكذا وفي هذا الإطار يتعين عند محاولة البعض الاستقواء بضغوط أجنبية ، وعلي المتدخلين الأجانب أن يضعوا هذه الفوارق ـ وهي مهمة جدا ـ في اعتبارهم . ونبغي بعد ذلك .. أن نشير إلي أمر بالغ الأهمية ، بل لعله الأكثر أهمية ، وهو دور نقابة الصحفيين ، ليس باعتبارها فقط مسئولة عن الدفاع عن حرية الصحفيين في التعبير والنشر ، وإنما ، هذا أساس حماية المهنة وسمعتها وسمعة العاملين بها ، بل وحماية الصحفيين من سيف اللجوء إلي القضاء لمحاسبتهم ولا يكون ذلك بمجرد الحماس للدفاع عن كل فعل أو خطأ ارتكبه الصحفي ، بل يتعين أن تكون هي الحامي الفعلي لشرف المهنة ، وأن تتولي هي وعلي الفور مساءلة المخطئ من أعضائها ، وليكن العقاب بقدر الخطأ ، وإن احتاج الأمر لعقاب رادع فليكن .. وساعتها لن يلجأ أحد إلي القضاء ولا لإعمال القانون الذي نختلف مع كثير من معطياته ، بل سيلجأون إلي النقابة التي ستصبح ساعتها حصنا حقيقيا لحرية الصحافة ولحرمة المواطن . كذلك يتعين علينا أن نتوقف وأن تتوقف النقابة عند المفردات المستخدمة في الكتابة ، فلقد يكون الخبر صحيحا ولدي الصحفي ما يكفي من مستندات لإثبات حسن نيته وصحة ما كتبه ، لكن المفردات تأتي منافية لأخلاقيات الكتابة.فالصحفي مسئول عن حماية المجتمع من ترويج مفردات لو شاع استخدامها لأصبحت التعاملات بين الأفراد متردية في هاوية لا أخلاقية . كذلك فإنه علي الصحفي أن يحاذر من تقديم موضوعات تعد ترويجا لموضوعات تعمل علي جر المواطن والمجتمع إلي رؤي متخلفة ومناقضة للعقل ، أو تروج لفكر متخلف وغير عقلاني . وإذا لم تقم النقابة بدورها هذا ، فإن جنايتها ستكون في نهاية الأمر علي الصحافة كمهنة ، إذ ستتحول إلي غابة يسود فيها الأطول لسانا .. والأقل أدبا والأكثر تبجحا ، وساعتها ستصبح حرية الصحافة عبئا علي المجتمع ككل ، وهنا يصبح من السهل افتراس هذه الحرية وسط مباركة من جمهور عاني من هذه الحرية بأكثر مما استفاد منها .. ولا حيلة لنا نحن المتهمين بحرية الصحافة والمدافعين عنها إلا أن نسعي لحمايتها ، مما يأتي من داخلها قبل أن نشكو مما يأتي من خارجها ، ويتألق في خاطري بيت شعر قديم: دواؤك فيك ولا تشعروداؤك فيك ولا تبصرـــــــــــــــــــ[c1]* عن / صحيفة ( الاهرام ) المصرية[/c]
|
فكر
حرية الصحافة .. وحدودها
أخبار متعلقة