الوحدة اليمنية وسؤال الهوية
في يوم الثاني والعشرين من مايو 1990م استعاد الوطن اليمني وجهه الشرعي الواحد، بقيام الجمهورية اليمنية التي دمجت دولتين شطريتين كانت كل واحدةٍ منها ابنا شرعيًا لكل من ثورتي 26 سبتمبر و14 أكتوبر، وهما ثورتان ترابطت حركتهما وأهدافهما الوطنية في سياق كفاحي وطني واحد ضد الاستبداد والاستعمار.لم يكتسب يوم الثاني والعشرين من مايو أهميته الوطنية من كونه اليوم الذي أنهى فيه شعبنا واقع التشطير الجغرافي والسياسي الذي انقسمت البلاد في ظله إلى دولتين ونظامين، بل إنه بالإضافة إلى ذلك جاء تتويجا لنضال طويل خاضته الحركة الوطنية اليمنية المعاصرة، من أجل استعادة حرية الوطن والإنسان، والقضاء على كل القيود التي تحول دون تطوره الحر والمستقل.من نافل القول: إن الثورة اليمنية (26سبتمبر – 14أكتوبر) كانت حاضرة في صميم التفاصيل اليومية للواقع المتغير بعد سقوط النظام الإمامي الكهنوتي في شمال الوطن وجلاء الاستعمار البريطاني ورحيل السلاطين عن جنوبه.ولما كانت الهوية والحرية شرطين أساسيين للحياة الإنسانية في المجتمع الدولي المتحضر، فإننا لا نبالغ حين نقول إن ثورة (14أكتوبر) ارتبطت بنزوع الإنسان اليمني إلى الدفاع عن هويته وحريته في وجه رياح الاستلاب الداخلية والخارجية.جاءت ثورة (14أكتوبر) 1963م بعد عقد من الزمان ونيف على دخول الحركة الوطنية الشعبية في الجنوب اليمني المحتل مرحلة نوعية في مسار تطورها السياسي والفكري والتنظيمي، حيث ارتفعت شعارات الوحدة اليمنية والاستقلال التام والعدالة الاجتماعية تحت تأثير الانتشار الواسع للأفكار القومية التحررية في الخمسينيات عقب قيام ثورة (23يوليو) 1952م بقيادة الزعيم الخالد جمال عبدالناصر.ونتيجة لارتباط مطلب الاستقلال بشعار الوحدة اليمنية تبلورت في أجندة العمل الوطني مهمتان تاريخيتان..الأولى: انتزاع الحرية المغتصبة من قبل الاستعمار البريطاني.. والثانية: استعادة الهوية المسلوبة التي ساهمت في تغييبها الكيانات السلاطينية الانفصالية في جنوب الوطن المحتل من خلال دخولها في معاهدات حماية وصداقة مع الحكومة البريطانية بهدف إضفاء الشرعية القانونية على الوجود الاستعماري والتجزئة في آنٍ واحد . لقد أدرك الاستعمار البريطاني خطورة شعار الوحدة اليمنية على التحالف (الانجلو سلاطيني) ومشاريعه المستقبلية، فخطط منذ البدء لتسويق هوية هلامية لا علاقة لها بتاريخ وجغرافيا الوطن، حيث قام بطرح مشروع ربط عدن بالكومنولث البريطاني وتوطين مسلمي الكومنولث في عدن في أواخر الاربعينيات وأوائل الخمسينيات من القرن الماضي ، بهدف طمس هويتها العربية ، وصولا الى تسويق مشروع اتحاد إمارات الجنوب العربي في أواخر الخمسينات، مع إبقاء سلطنات حضرموت والمهرة وسقطرى خارج ذلك الاتحاد، ثم شرع ببناء هياكل الدولة الاتحادية وهيئاتها الحكومية وأجهزتها الإدارية والعسكرية والأمنية والإعلامية.في بداية الستينيات تحول اسم الدولة الفيدرالية المخطط لها إلى (اتحاد الجنوب العربي) بعد دمج عدن في ذلك المشروع وتم تحويل إذاعة عدن التي كانت تابعة للإدارة الاستعمارية إلى إذاعة وطنية للاتحاد، فيما قامت الإدارة الاستعمارية بإصدار عملة محلية وطوابع بريدية تحمل اسم (الجنوب العربي) وتصميم علم للدولة ونشيد (وطني) يهتف بحياتها وحياة حكامها من سلاطين وأمراء الكيانات التي كرست تجزئة الجنوب في بداية الأمر، ثم اضطلعت لاحقا بتكريس هوية ضبابية، الغرض الرئيسي منها نفي ارتباط الجنوب بالهوية اليمنية أرضا وشعباً وتاريخاً .كان المخطط الاستعماري يستهدف قطع الطريق على الحركة الوطنية اليمنية، ومنعها من تحقيق أهدافها في الاستقلال والوحدة، حيث بدأت وزارة المستعمرات البريطانية بإعداد مشروع لإعلان استقلال (الجنوب العربي) في صيغتين متكاملتين، الأولى: دولة اتحادية فيدرالية مستقلة تضم ولاية عدن والكيانات السلاطينية والأميرية والمشيخية في ما كانت تسمى (المحميات الغربية) (لحج، أبين، الضالع، شبوة) حالياً، أما الثانية: فهي دولة كونفدرالية تضم سلطنات حضرموت والمهرة وسقطرى والتي كانت تعرف بالمحميات الشرقية.. على ان يتم ربط هذين الكيانين فيما بعد بمعاهدات حماية وصداقة جديدة مع بريطانيا، امتداداً للمعاهدات السابقة التي وقعها سلاطين وأمراء الجنوب بصفتهم حكاماً للسلطنات والإمارات والمشيخات التي كانوا يحكمونها.وبوسع المرء أن يتخيل المصير المجهول الذي كان ينتظر بلادنا وشعبنا لو حقق التحالف الانجلو سلاطيني أهدافه بتقسيم جنوب الوطن إلى دولتين و إضفاء هويتين مختلفتين على كل منهما، تلتقيان في نقطة واحدة هي طمس الهوية اليمنية وإعلان استقلال شكلي يكرس الهيمنة الاستعمارية بأشكال مموهة.بيد أن خطط وزارة المستعمرات البريطانية والكيانات السلاطينية اصطدمت برياح ثورة 14أكتوبر، وكفاح قواها الوطنية، وتضحيات جماهير شعبنا التي تعمدت بأرواح ودماء عشرات الآلاف من الشهداء والجرحى والمعوقين. وبقدر ما جسدت شعارات وأهداف ثورة 14أكتوبر ارتباطها العضوي والوثيق بأهداف ثورة 26 سبتمبر في شمال الوطن، بقدر ما وجهت ضربات قاضية لمشروع الهوية البديلة والاستقلال المزيف، الذي لفظ آخر أنفاسه يوم الثلاثين من نوفمبر الخالد1967م، برحيل الاستعمار والسلاطين، وانتزاع حرية الوطن، ودفن اتحاد الجنوب العربي في مقبرة التاريخ، وإلغاء الكيانات السلاطينية والأميرية والمشيخية التي كرست تجزئة الجنوب، وتوحيدها في دولة مركزية استعادت ـــ ولأول مرة بعد قرون طويلة- ـــ الهوية اليمنية المسلوبة.. حيث قامت (جمهورية اليمن الجنوبية الشعبية) التي أسستها الجبهة القومية، وتحولت اليمن فيما بعد إلى (جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية)، كخطوة على طريق الوحدة اليمنية التي ظل شعارها مرفوعاً بعد الاستقلال، كتعبير عن الرفض الشعبي لواقع التجزئة والإصرار على تجاوز هذا الواقع.ولا ريب في أن توحيد الوطن اليمني ـــ أرضاً وشعباً ـــ في الثاني والعشرين من مايو 1990م، ما كان ليتحقق لولا الإنجاز الوطني التاريخي الذي حققته ثورة 14أكتوبر، والمتمثل في استعادة حرية جنوب الوطن واستقلاله وهويته.. وإلغاء الكيانات السلاطينية ودفن مشروع اتحاد الجنوب العربي سيئ الصيت يوم الثلاثين من نوفمبر 1967م تتويجاً لنضالٍ طويل تعمد بالدماء والتضحيات الجسيمة التي لا يمكن إنكارها أو التفريط بها.بهذا المعنى.. يصبح الوفاء للثورة اليمنية (26سبتمبر و14أكتوبر) جزءاً لا يتجزأ من الدفاع عن الهوية والحرية. صحيح أن طريق استكمال وحدة الوطن اليمني تعرض لكثير من العوائق والرمال المتحركة بعد استقلال الشطر الجنوبي من اليمن، وحدوث عواصف عاتية في الشطر الشمالي .. بيد أن قضية توحيد الوطن أرضا وشعبا ظلت عنوان العلاقة بين قيادتي الشطرين، وخصوصاً منذ وصول الرئيس علي عبدالله صالح الى قمة السلطة في الشطر الشمالي من الوطن عام 1979م، حيث شهدت البلاد نموا متسارعا للعمل الوحدوي السلمي بين القيادتين السياسيتين فيما تزايد دور منظمات المجتمع المدني وبخاصة اتحاد الأدباء والكتاب اليمنيين الذي كان أول مؤسسة وحدوية تجاوزت واقع التجزئة وجسدت مشاركة المبدعين المثقفين في تحويل الثقافة الوطنية إلى رافعة قوية لمشروع الوحدة.تأسيساً على ذلك ، يمكن القول إن بروز ظاهرة الإيديولوجيا في سؤال الوحدة اليمنية المعاصر ، يرجع إلى وجود دولتين مستقلتين تقاسمتا الهوية اليمنية منذ أواخر الستينات غداة استقلال الشطر الجنوبي من الوطن في الثلاثين من نوفمبر 1967 حتى 22 مايو 1990 م . وقد ارتبط ظهور تلك الدولتين بدخول اليمن مرحلة خطيرة من الاستقطابات الإيديولوجية الحادة ، والصراعات السياسية المتواصلة ، والحروب الأهلية الدامية ، و صولاً الى المواجهات المسلحة بين الشطرين ، الأمر الذي الحق ضرراً جسيماً بالمصالح الوطنية العليا للشعب اليمني ، وأفسح المجال لقيام كل من الدولتين بـتـقـنـين عدد من الإجراءات والضوابط والقيود التي تمس الحريات العامة والحقوق المدنية للمواطنين، وتصادر حرية تنقل الأفراد والمنتجات الوطنية والمطبوعات والصحف والمجلات والكتب اليمنية بين الشطرين ، فيما جرى بصورة متبادلة إحاطة تلك الأوضاع الشاذة بمناخ متوتر اتسم بالنزوع الى إضفاء الطابع الإيديولوجي الصرف على التمايزات الشطرية. في هذا السياق ظهرت تصورات دوغمائية وغير واقعية لتحقيق الوحدة من مواقع التفكير القديم ، واشتركت هذه التصورات والمفاهيم في إنتاج ثقافة سياسية مشوّهة زعمت بوجود نظامين اجتماعيين متمايزين ومتوازيين لا يمكن أن يلتقيا إلا بتكريس أحدهما ، ونشرت الأوهام حول ضرورة العمل من أجل إنضاج الشروط التي تمكن كل نظام من نفي الآخر وإلغائه . لم يكن هذا التفكير الذي عمل على تعريف الوحدة بواسطة نفيها حكراً على شطر دون الآخر ، بل أنه كان سمة مشتركة للتفكير السياسي القديم في كل من الشطرين إزاء قضية وحدة الوطن . صحيح أن كلاً من الكيانين – الدولتين – قام بتصميم منظومة من الأدوات والمخططات التنظيمية والسياسية والاقتصادية اللازمة لبلوغ هذا الهدف بشكل منفرد ، لكنهما لم يسلما معاً من مثالب نزعات الاحتكار والإلغاء والإقصاء ، وربما كانت تلك الأزمة تندرج ضمن إشكاليات أساليب التلقين الذي عانى منه – طويلاً – وعينا الإيديولوجي من جرّاء تعطيل أو تسطيح دور العقل كأداة للتفكير . قطعاً كان هناك ما يشبه الفراغ الثقافي الذي كرسته عوامل عديدة من بينها ضعف مستوى تطور الثقافة الوطنية والإنتاج الثقافي في اليمن ، بالإضافة إلى ما كانت تعانيه الثقافة العربية عموماً في السبعينات من تشوهات واختلالات .. ولعل ذلك الوضع كان سبباً في أن يكون التفكير مغترباً عن تربته الثقافية وإشكالياتها ، ومفتقراً إلى مرجعيته المعرفية التي لا يمكن أن تتوفر إلا على خلفية من الثقافة الرفيعة ، فيما كانت النتيجة الموضوعية لكل ذلك ، تكريس إغتراب محتوى التفكير عن الحياة الواقعية ، وحصره في دائرة التأملات والأحلام والأوهام الإيديولوجية المجردة ، والنزوع الى الإنفراد والإلغاء والاقصاء والتجريبية وتعسـُّف الحقائق ، وما ترتب على ذلك من تناقضات ومواجهات ومصـادمات دورية طالت الأمن والاستقرار في الشطرين معاً ، وفي كل منهما على حدة أيضاً .. فقد عانى الشطر الجنوبي من الصراعات الداخلية على السلطة حتى منتصف الثمانينات ، فيما عانى الشطر الشمالي من صراعات مماثلة حتى مطلع الثمانينات . وبين هذا وذاك .. تدفقت المفاهيم النظرية والتصورات السياسية والإيديولوجية المتناظرة والمتناقضة ، لتؤسـِّس وعياً مشوهاً يفتقر إلى شروط المعرفة المعاصرة لواقع التجزئة في الظـروف الوطنية والعالمية الجديدة والمتغيرة ، ويتجاهل تحت ضغط سلطة التجزئة والصراع الداخلي على السلطة ضرورة إغناء وتطوير شروط المعرفة لسؤال الوحدة اليمينة الذي صاغه الخطاب السياسي الوحدوي للحركة الوطنية اليمنية المعاصرة ، وكان له دور هام في تشكيل الوعي الوطني المعاصر للشعب اليمني سواء في مرحلة استيقاظه الأولى ، أو في مرحلة نهوضه وتبلوره بعد قيام ثورتي 26 سبتمبر و 14 أكتوبر . كان تعاطي هذه الأنماط من المفاهيم النظرية والتصورات السياسية والإيديولوجية يتم في ظل نقص حاد لأدوات التحليل المعرفي ، الأمر الذي جعل التأثير السلبي لهذا التعاطي غير محصور في حدود تسطيح الوعي النظري ، بل امتد ليشمل تراكماً طويلاً من العمليات السلبية على مستوى الوعي، تمخضت عنها ولادة مشوهة لفكر سياسي ينطوي على أزمة عقل وأزمة ثقافة في آن واحد عند الإجابة عن سؤال الوحدة اليمنية .إن قولنا بوجود أزمة عقل .. وأزمة ثقافة في الحياة الفكرية والسياسية التي شهدت تعاطي تلك المفاهيم والتصورات والشعارات ينطلق من الفرضية التي تقول بأن للفكر جانبين .. أولهما أن الفكر محتوى ، وثانيهما أنه أيضاً أداة ، بمعنى أنه عقل يقوم بانتاج المفاهيم والتصورات ومختلف إشكال التفكير والوعي . أما المعادل الموضوعي الذي يربط بين جانبي الفكر ، فهو البيئة السياسية والاجتماعية والثقافية التي ينتمي إليها ، لأن عملية التفكير تتم داخل ثقافة سياسية معينة وبواسطتها .. أي التفكير بواسطة مرجع معرفي من أبرز محدداته موقف الإنسان في المجتمع ونظرته إلى العالم ورؤيته للمستقبل !! . يقيناً ان تزامن ظهور الدولتين الشطريتين السابقتين مع دخول سؤال الوحدة اليمنية دائرة « أوهام الآيديولوجيا » لم يؤد فقط الى محاصرة هذا السؤال وتكبيله بقيود الآيديولوجيا ، بل أدى إلى إفراغ سؤال الوحدة من أي مضمون تاريخي معاصر على الرغم مما قد يتصوره البعض ظاهرياً .. لأن سؤال الوحدة دخل على يد الآيديولوجيا مأزقه المحتوم في كل من الدولتين الشطريتين حيث ساد الاعتقاد بأن الحقيقة يحتكرها كل منهما منفرداً ، وينفيها كل منهما عن الآخر منفرداً أيضاً! هكذا تولى الخطاب السياسي والآيديولوجي القديم أواخر الستينات وخلال السبعينات والثمانينات من القرن العشرين المنصرم وظيفة تبرير وجود نظامين اجتماعيين متمايزين، أو تبرير وجود نظام يجد هويته في الدين مقابل نظام يجد هويته في الطبقة الإجتماعية التي يدافع عن قضيتها بحسب ذلك الخطاب!!وهكذا أيضاً كانت التجزئة تقوم بتعريف الوحدة وتعريف شروط قيامها .. كما أصبحت التجزئة أيضاً هي التي تقوم بتوظيف المفهوم الآيديولوجي للوحدة بهدف خلق نقيضه ، أي تبرير وتكريس الدولة الشطرية . بيد أن ذلك الخطاب لم يكن قادراً على إعادة تعريف الثقافة الوطنية التي شكلت رافعاً قوياً للخطاب السياسي الوطني الشعبي الوحدوي في مواجهة هيمنة الآيديولوجيا على الإجابة التي يتطلبها سؤال الوحدة ! انطوى الخطاب السياسي الوحدوي للدولتين الشطريتين على قدر كبير من التبسيط والدوغمائية على نحو ما تجسد في بعض الإطروحات السياسية والنظرية بصدد الوحدة اليمنية وسبل تحقيقها خلال السبعينات والثمانيينات .. وقد استند جزء كبير من هذه الأطروحات إلى قاعدة من التصورات النظرية التي تم نقلها من مراجع خارجية وإسقاطها بصورة تعسفية على الواقع اليمني . ولا نبالغ حين نقول إن المجتمع اليمني شهد منذ ظهور الدولتين الشطريتين نوعاً من الإستقطابات الآيديولوجية المحمومة ، ما أدى إلى كبح تطور العملية الثورية المعاصرة التي مرت بمخاض عسير وغير طبيعي ، نتجت عنه تشوهات واختلالات في الوعي السياسي لأقسام واسعة من الناس بسبب الإستقطابات الآيديولوجية التي اشتركت – برغم تنافرها – في موضوعة واحدة ترى بأن الوحدة اليمنية لا يمكن تحقيقها بين نظامين متمايزين بدون اسقاط أحدهما وتعميم النموذج الآخر!والثابت أن تلك الاستقطابات الحقت اضراراً كبيرة بمسار العملية الثورية المعاصرة في اليمن ، حيث انتعشت النزعات المعادية للديمقراطية والحداثة تحت تأثير البنى التقليدية الداخلية والتدخلات الخارجية ، وشكلت الدعوة الى الأصولية السلفية بيئة مثالية لمعاداة الديمقراطية والحداثة ، ومصادرة الدور النقدي للعقل ، ومحاصرة منابع التنوع الفكري في المجتمع تحت شعار محاربة الأفكار المستوردة . في الاتجاه نفسه تم تمزيق أوصال الفكر الاجتماعي الجديد، وسد المنابع التي تساعد على إثرائه وتنويعه تحت شعار محاربة الأفكار البرجوازية والرجعية ، وصولاً إلى تنميط الوعي الإيديولوجي و تعليب الممارسة السياسية في قوالب جاهزة ، ما أدى الى فرض الوصاية على العقل ومصادرة الحرية والإدعاء بامتلاك الحقيقة واحتكار ميراث الحركة الوطنية اليمنية المعاصرة ، وإلغاء التعدد والتنوع في الحياة السياسية والفكرية. هكذا برزت التصورات الرافضة للمغايرة كشرط للوحدة التي تراوحت مفاهيمها الآيديولوجية بين الدولة ذات التوجه الديني والدولة ذات التوجه الاشتراكي ، فيما كان الواقع الإجتماعي بخصائصه الوطنية والتاريخية غائباً وضائعاً بين هذه المفاهيم التي لم تجد مرجعها المعرفي فيه . نقول ذلك لأن إنغلاق هذه المفاهيم على ذاتها أدى إلى دخولها بشكل دائم وثابت في حالة صدام ليس فيما بينها كما يبدو من ظاهر الأحداث التي شهدتها الساحة اليمنية ، بل إلى دخولها بشكل مشترك في صدام موضوعي مع الواقع من جهة، ومع الميول الموضوعية لتطور الحياة والعالم من جهة أخرى. وهو ما سيتناوله الجزء الاخير من هذا المقال في الاسبوع القادم بإذن الله .[c1]* عن / صحيفة ( 26 سبتمبر )[/c]