منذ سنوات أخرج عالم الاجتماع الكويتي المعروف خلدون النقيب كتاباً مهماً بعنوان "آراء في فقه التخلف"، جمع فيه دراساته التي نشرها عبر سنوات عن مظاهر التخلف في المجتمع العربي المعاصر، وتجلياته المتعددة في مجالات السياسة والاقتصاد والثقافة.وحاول فيه - ليس مجرد رصد علامات التخلف - ولكن سبر أغوار الفكر العربي الذي تتبناه جماعات سياسية واجتماعية عربية متعددة، تحاول فيه التنظير للتخلف، واعتباره - على عكس كل الأدلة المضادة - لب التقدم الإنساني!وقد حاولنا في مقالنا الماضي (خطاب الماضي ولغة المستقبل)، أن نعرض لبعض مكونات رؤية العالم الرجعية المنغلقة التي تتبناها جماعات إسلامية متعددة، تتراوح وسائلها بين الدعوات السلمية واستخدام العنف والإرهاب. فالديمقراطية لديهم بدعة غربية مستوردة، ولذلك فهي حرام بكل مكوناتها، والبديل الذي يقترحونه –بغموض كبير– هو الشورى الإسلامية، وذلك بغير تفصيل في كيفية ممارستها في عالم التطبيق، متناسين أن الشورى توقف تطبيقها بعد عصر الخلفاء الراشدين، وأصبح الحكم الإسلامي منذ ولاية "معاوية بن أبى سفيان"، ملكاً عضوداً، وصارت البيعة تؤخذ بحّد السيف.والأحزاب السياسية - وفق هذه الرؤية المنغلقة - هي أحزاب الشيطان لأن الإسلام لا يعرف الأحزاب، كما صرح مرة مرشد سابق لـ"الإخوان المسلمين". وقد دارت حول الشورى والديمقراطية سجالات متعددة داخل المعسكر الإسلامي نفسه، وأخرج أستاذنا الجليل توفيق الشاوي أستاذ القانون والمفكر المعروف مرجعاً مهماً في الموضوع عنوانه "الشورى والاستشارة"، وقرر فيه أن الشورى أفضل من الديمقراطية لأن مصدرها إلهي، في حين أن الديمقراطية مصدرها وضعي. وقد رد على هذا الكتاب بعض المفكرين الإسلاميين الذين يخشون من عزلة التيارات الإسلامية - نتيجة لهذا الرأي المتزمت - عن الحياة المعاصرة، وقرروا أن الشورى هي المعادل الموضوعي للديمقراطية.ووفقاً لهذا الرأي غيرت جماعة "الإخوان المسلمين" موقفها من موضوع الشورى والديمقراطية، وأعلنت تخليها عن آرائها القديمة، واعترفت أن الديمقراطية صيغة سياسية مناسبة، وقبلت فكرة الاشتراك في الانتخابات الديمقراطية، وأصبح لها في مجلس الشعب المصري أكثر من ثمانين نائباً، كما شاركت في انتخابات مجلس الشورى الأخيرة، وإن كانت وجدت صعوبات متعددة، نتيجة استخدام أنصارها شعار "الإسلام هو الحل"، وهو شعار ديني محظور دستورياً.وفى مجال الاقتصاد تثير نفس الجماعات الإسلامية مشكلات شتى بصدد فوائد البنوك، بزعم أنها تدعو إلى ما تطلق عليه الاقتصاد الإسلامي، وتروج للبنوك الإسلامية.وهذه الاتجاهات أصابت جمهور المتعاملين مع البنوك ببلبلة فكرية كبرى، وتعددت طلبات "الفتاوى" من قبل الجماهير متسائلة عن الحلال والحرام في موضوع الفوائد. والغريب أن الفتاوى التي تحرّم التعامل بالفوائد، تجاهلت الفروق الجسيمة بين العصور الماضية التي كان فيها بالفعل مرابون ولكن لم يكن فيها بنوك، وقاسوا خطأً الفائدة على الربا. مع أن هناك فتاوى دينية راجحة تقرر بوضوح وصراحة، كما أفتى شيخ الأزهر ومفتى الديار المصرية، أن فوائد البنوك حلال لا شك فيها.والواقع أن الرؤية المنغلقة لهذه التيارات الإسلامية، تتجاهل أن النظام الاقتصادي العالمي يعتبر الفوائد آلية أساسية للمبادلات والتعاملات المالية والتجارية، ومن ثم فاعتبارها "ربا" من شأنه أن يربك تعاملات الدولة مع المؤسسات العالمية ومع الدول الأجنبية. وذلك لسبب بسيط مؤداه أن أي دولة لا تستطيع - حتى ولو أرادت - أن تفرض رؤيتها الدينية على النظام المالي العالمي.وفى المجال الثقافي يستأثر وضع المرأة باهتمام خاص من قبل أنصار الرؤية الدينية المنغلقة. والاتجاه الغالب لدى هذه الاتجاهات الإسلامية الرجعية هو تبني نظرية دونية للمرأة باعتبارها أقل من الرجل مقاماً وأدنى منزلةً، بل وصلت الآراء المتطرفة إلى التشكيك في قدراتها العقلية التي لا يمكن –في نظرهم- مقارنتها بالقدرات العقلية الجبارة للرجل! وإضافة إلى ذلك فالمرأة –عندهم– تتسم بالعاطفية المفرطة التي تؤثر على سلامة أحكامها! ومن هنا تبلورت النظريات الشهيرة لهذه الجماعات عن تحريم عمل المرأة، على أساس أن وضعها الطبيعي أن تبقى في المنزل لتربية الأولاد، وحتى لا تزاحم الرجل في مجال العمل! وقد ظهرت تجليات هذه النظرة الدونية للمرأة في مصر مؤخراً بعد القرار الذي نص على تعيين عدد من النساء في القضاء. إذ ظهرت من جديد الحجج الرجعية القديمة الخاصة بتدني وضع المرأة، وأضيفت إليها حجج جديدة تقوم على أقاويل غير علمية، أبرزها أن عقل المرأة أقل كفاءة من عقل الرجل!ومن الغريب أن تتصاعد هذه الصيحات في مجتمع كالمجتمع المصري كانت له الريادة في تعليم البنات، ولعل الذي يشهد على هذا السبق كتاب رائد الفكر العربي الحديث الشيخ رفاعة رافع الطهطاوي "تعليم البنات والبنين"، والذي كان بالفعل سابقاً لعصره.منذ عشرات السنوات تم تعليم الفتيات المصريات في المدارس والجامعات وأبرزن تفوقاً ملحوظاً بالنسبة للبنين، وشغلت المرأة المصرية مختلف الوظائف والمهن، أستاذة جامعية، وباحثة في مختلف فروع العلم، ومحامية، وسفيرةً. وقد تجلت القدرات البارزة للمرأة في كل هذه المهن، وأخيراً أصبحت المرأة المصرية قاضية، بعد تعيين الأستاذة تهاني الجبالي مستشارة في المحكمة الدستورية العليا، والتي هي ذروة النظام القضائي المصري الشامخ، صاحب التاريخ المجيد في الدفاع عن الحريات، وفى القضاء بالعدل بين الناس.ومن هنا يمكن القول إن هذه الاتجاهات الرجعية للجماعات الإسلامية، معتدلة كانت أو متطرفة، هي بمثابة عودة إلى الوراء. وإذا انتقلنا من مجال وضع المرأة إلى مجال الطب، لوجدنا تجليات للرؤى البدائية لهذه التيارات الإسلامية، تتمثل في رفع شعارات مفارقة لروح العصر، مثل "الطب النبوي" الذي يتمثل في إعادة إنتاج وسائل للعلاج كانت مطبقة في العهود القديمة، وذلك قبل التقدم المذهل في الطب والعلاج بالوسائل الحديثة.ومن الغريب أن بعض الفضائيات العربية تروج لهذه الدعوات غير العلمية، وهذا يؤكد على الاتجاه الثقافي السلبي لهذا الإعلام المزيف.وإذا أضفنا إلى ذلك نشر الفكر الخرافي باعتباره فكراً دينياً وليس هذا صحيحاً بالمرة، إلى جانب نشر ثقافة "تفسير الأحلام" التي يشارك فيها أساتذة جهلة في علم النفس وشيوخ مزعومون، لأدركنا أننا في مواجهة كارثة ثقافية. وذلك لأن هذه الادعاءات تؤثر سلباً على وعي الجماهير التي تنتشر فيها الأمية بمعدلات عالية، وبالتالي فهي عاجزة عن معرفة الحقيقة من الزيف، بحكم عدم قدرتها على الإطلاع المباشر على مصادر المعرفة الأصيلة.ولو التفتنا بعد ذلك كله للدعوة إلى ما يسمى "أسلمة العلوم"، لأدركنا أن دائرة فقه التخلف قد اكتملت، وأن الغرض منها في الواقع هو عزل جماهير المسلمين عن تيارات الحضارة المعاصرة![c1]نقلا عن صحيفة (الاتحاد) الإماراتية[/c]
فقه التخلف !
أخبار متعلقة