حين اندلعت أزمة المقاطعة الخليجية مع دولة قطر، ساد الاعتقاد – آنذاك – أن سياسة الضغط والعزل قادرة على فرض الوقائع، وأن لغة الإملاء ستغني عن الحوار. لكن ما الذي حدث لاحقًا؟
عادت قطر أقوى سياسيًا، وأكثر استقلالًا في قرارها، بينما اضطرت الدول المقاطِعة، وفي مقدمتها المملكة العربية السعودية، إلى مراجعة المسار، والعودة إلى طاولة التفاهم، بعد سنوات من القطيعة التي لم تحقق الأهداف المعلنة.
هذه التجربة لا تُستدعى اليوم للشماتة، ولا لإعادة فتح جراح الماضي، بل بوصفها درسًا سياسيًا واضحًا:
القطيعة لا تصنع نفوذًا دائمًا، والتصعيد لا يخلق استقرارًا، والإعلام التحريضي لا يبني شراكات.
في المشهد اليمني، تلوح في الأفق مؤشرات مقلقة، تعيد إلى الأذهان مناخات تلك الأزمة، وإن اختلفت الجغرافيا والسياق. خطاب متشنج، حملات إعلامية عنيفة، محاولات شيطنة طرف شريك، وتقديم الخلاف السياسي كمعركة كسر عظم. وهي ذات الأدوات التي ثبت فشلها سابقًا، حين طُبّقت في الفضاء الخليجي.
السؤال المشروع هنا:
هل كانت مقاطعة قطر درسًا استُوعب، أم خطأ يُعاد إنتاجه بأشكال مختلفة؟
وهل ما يجري اليوم يخدم فعليًا مصالح المملكة العربية السعودية، أم يضعها في مسار استنزاف سياسي وإعلامي جديد؟
إن الجنوب، ممثلًا بالمجلس الانتقالي الجنوبي، ليس دولة معزولة، ولا كيانًا طارئًا يمكن تجاوزه بالضغط أو التهديد. هو واقع سياسي واجتماعي تشكّل بفعل تضحيات جسيمة، ويحظى بحاضنة شعبية، وشراكات إقليمية، وفي مقدمتها الشراكة مع دولة الإمارات العربية المتحدة، التي أثبتت أن مقاربة الاستقرار والتنمية أكثر نجاعة من منطق الوصاية.
التأليب الإعلامي، أيا كان مصدره، لا يمكن أن يُقرأ إلا بوصفه انحرافًا عن منطق التحالف، وخدمة غير مباشرة لأطراف لا تريد الخير لا للسعودية ولا للجنوب. فالمستفيد الوحيد من تفكك العلاقات بين الرياض وأبوظبي، أو من صدام مع الجنوبيين، هو ذلك المشروع الذي يتغذى على الانقسام، ويقتات على الفوضى.
لقد أثبتت التجارب أن حكم العقل والمنطق، وتغليب لغة الحوار، هو الخيار الأقل كلفة، والأكثر استدامة. الطائرات قد تحسم معركة، لكنها لا تبني سلامًا، والحملات الإعلامية قد تُشعل الرأي العام، لكنها لا تصنع حلولًا.
اليوم، أمام المملكة فرصة حقيقية لتجنب تكرار أخطاء الماضي، عبر مراجعة الخطاب، ووقف التحريض، والعودة إلى مقاربة شراكة متوازنة، تحفظ مصالح الجميع، وتحمي التحالف من التفكك، وتجنّب الجنوب والسعودية معًا مسارًا لا رابح فيه.
فالتاريخ لا يرحم من لا يتعلم، والسياسة لا تعترف إلا بمن يملك شجاعة المراجعة، قبل أن تتحول الأخطاء إلى أثمان باهظة، يدفعها الجميع.
