هذه رؤية تستحق التوقف. الأمر ليس مجرد تصرف غير مدروس. بل هو انعكاس لتوجه عميق داخل الولايات المتحدة الأمريكية، سيقود العالم إلى تغير جاد. وأكد ذلك خطاب ترامب أمام الكونجرس والذي وصل إلى رقم قياسي تجاوز الساعة والأربعين دقيقة! (يبدو عدنا لمرحلة الخطابات الطويلة التي كنا نسيناها، مع انقضاء الحرب الباردة وصراع الأيديولوجيات). ترامب عاد إلى الرئاسة أكثر قدرة من فترته السابقة، مسلحا بفريق متكامل من المخلصين المندفعين. والأهم مسلحا برؤية ستكون هي «الترامبية» الجديدة. إن ما يجرى هو تحول عميق لأمريكا ودورها في صنع النظام العالمي الجديد .وليس مجرد تصرف عابر. بل وراء الأمر رؤية وتوجه تتنامى قوته كل يوم. يصنع مشهدا امريكيا جديدا، لن يخلو من القسوة، والتلويح بالقوة إلى درجة ابتزاز أصحاب النفوذ، وهو توجه أقرب لانقلاب كامل منه لمجرد جولة انتخابية معتادة. مايجرى هو تكريس منهج جديد صارم، يزيح الخصوم بقسوة، ويصنع حلفاء مخلصين جددا، في مختلف مؤسسات الدولة . وضمن ذلك يأتى التوجه في صنع التحالفات الإقليمية والدولية. ولهذا ستتلاحق مشاهد التغيير لتشمل مسار التعاون الدولي. انه مشهد أقرب لتحولات العالم في الأربعينيات. عقب الحرب العالمية الثانية، الذي صنع انقساما عالميا معروفا وخلف النظام العالمي الذي نعيشه منذ ذلك الوقت. وما كان يسمى محور العالم الغربي- الرأسمالي، في مواجهة الكتلة السوفيتية، والمعسكر الشرقي.
وبعد الحرب العالمية الثانية، صار الآن محورا جديدا. ولم يعد الغرب هو الغرب ولا الشرق هو الشرق. واليمين الصاعد سيوّحد قواه بناء على مصالح آنية سريعة، من واشنطن إلى موسكو وحتى الصين نفسها. وبمنطق التقاسم الفج لمصالح وثروات العالم. وكل من سيجلس أمام سيد البيت الأبيض على الطاولة يفاوض، عليه ان يضع أوراقا، تفيد بتقاسم مصالح، لا مجرد افكار ملزمة اخلاقيا.
ترامب القادم من سوق العقارات يفهم منطق الصفقات لا الالتزام الأيديولوجي، وتحكم تصرفاته سلوكيات منظمي عروض المصارعة، ومقدمي برامج تليفزيون الواقع، أي قاعدة كسر القواعد. ويريد أن يؤكد أنه الرئيس الأكثر نفوذا وقوة، حتى من رونالد ريجان الذي ينظر إليه بانه بطل النصر في الحرب الباردة، ولكن ريجان القادم من استوديوهات هوليوود يومها، بقي رغم عوامل النفوذ، محكوما بقواعد الممثل الملتزم بنص وتوجيهات المخرج. أما ترامب فهو يأتي بعقلية التاجر المفتون بجنون عروض المصارعة، وكسر قواعد السلوك الدبلوماسي. لذا جمع حوله فريقا من المؤمنين بهذا النهج الذي يسعى ليكون هو نهج أمريكا في العقود القادمة. ستكون أمريكا أمام تحول جاد «للترامبية»، وهو تيار جديد، يرى باختصار إن التدخلات من أجل الاستقرار العالمي، وحماية الديمقراطية، هو عبث، والسير بحماية حلف من الأصدقاء الضعفاء هو عبء لابد من التخلص منه. لذا كان لقاء ترامب ونائبه مع الرئيس الاوكراني قاسيا، ولم يقصد شخص زيلينسكي، الذي بقي بملابسه غير الرسمية غير مقنع دوما، وكأنه ذاهب لمعسكر تدريب كشافة لا لحوارات دبلوماسية مهمة، لم يكن هو المقصود بالتنمر لوحده، بل القصد كان طابورا من قادة العالم خاصة أوروبا. حيث يقول لهم سيد البيت الأبيض، ان تحالفا جديدا سينشأ، وقواعد جديدة تُسن. وأمام منطق القوة وأسلوب العنف بلع رئيس أوكرانيا الإهانة، وعاد معتذرا، قائلا عن ترامب انه، (حتى خطاياه ما عادت خطاياه)، وإن (من بـدأ المأساة ينهيهـــا)، على رأي نزار قباني. وسنكون أمام تحول عالمي، يتجاوز مجرد معادن أوكرانيا، أو شواطئ وغاز غزة، أو ثروات كندا .
نعم الترامبية، توجه إذا استمر في التقدم (وهو يبدو كذلك) فيعني مقدمة لتغيير عالمي لا نعرف مستقره، وقد يكون ترامب أبرز صانع تحول دولي قادم، أو هو (كما قلتُ سابقا) سيكون جورباتشوف آخر، يقفز بالولايات المتحدة الأمريكية إلى فراغ عجيب. كل ذلك ممكن، والأهم ان كل ذلك يجعل السؤال الأهم يطرح نفسه: أين نحن كمنطقة من هذا التيار الجارف، هل سنكون في مجرى التيار مكشوفين. ام نستطيع أن نصنع تحولا لمجرى السيل، بحيث نعود رقما في عالم لا تحكمه غير الأرقام؟!