وما أن يذكر الرعيل المؤسس من ياسر عرفات أبو عمار، وخليل الوزير أبو جهاد، وصلاح خلف أبو إياد، وجورج حبش وخالد الحسن، إلا وذكر فاروق القدومي (أبو اللطف).
ورغم محطات النضال العديدة للراحل الكبير وتجاوزه التسعين من العمر، فإن الرحيل في هذه اللحظة الفارقة يعيد للأذهان مواقف عدة للقدومى، أثبتت الأيام صوابها، وأولها انتقاده لتمزق الصف الفلسطيني ودعوته إلى ضرورة وحدة النضال الوطني، والتمسك بخيار المقاومة، ويذكر أنه انتقد بشدة الصراع بين فتح وحماس قائلاً إن «عنادهما سيقود إلى صراع دموي بين الفصائل» . بل ذهبنا إلى ما هو أسوأ من ذلك يا أبو اللطف الآن. فكما ترى المذابح لا تتوقف والشقاق لا ينفك يزداد شططا.
وفي هذا المقام يذكر للراحل الكبير نصيحة مهمة لحماس بأن تبقى مع فتح وطبيعة الحال مع منظمة التحرير الفلسطينية، واحتجنا لسنوات طوال وعشرات الآلاف من الضحايا لنصل إلى تلك الرؤية. ولعل فاروق القدومي طابت نفسه قليلا قبل الرحيل وهو يتابع في آخر أيامه، اتفاق عدة فصائل فلسطينية على إنهاء الانقسام وتعزيز الوحدة الفلسطينية بتوقيعها إعلان بكين في العاصمة الصينية صباح الثلاثاء 23 يوليو الماضي، وكأننا كنا بحاجة إلى الوصول إلى الصين لنتفق والإعلان عن تبني «حكومة مصالحة وطنية مؤقتة» لإدارة غزة بعد الحرب. وهو اتفاق أعاد الأمل في النفوس لوحدة الصف الفلسطيني، ولكن لم يمض أسبوع واحد فقط، ليتم اغتيال الشهيد إسماعيل هنية، نعم بعد أسبوع واحد لا غير، كان ذاك في فجر الأربعاء 31 يوليو وفي قلب طهران العاصمة الإيرانية، لنبقى في هذا المخاض الصعب، واللحظات التي يصعب وصفها. وشاء القدر أن أعرف الراحل الكبير فاروق القدومي أيضا في لحظة تاريخية فارقة لمنطقتنا العربية، لا تفرق كثيراً عما نحن عليه اليوم.
كان ذلك في القمة العربية التي عقدت في بغداد 28 مايو 1990، ونحن الشباب القادم من يمن أعاد توحيد صفوفه، حيث كان عمر الوحدة اليمنية أسبوعا واحدا لا غير، فبعد إعلان الوحدة 22 مايو 1990، كان الذهاب لمؤتمر بغداد بوفد جديد ليمن جديد يمن أُتيحت له فرصة تاريخية لا تعوض لصنع واقع جديد لكل المنطقة لو كنا أحسنا استثمارها،(ولكن ذاك حديث آخر ذو شجون له موقعه غير هذا المقال)، وأبقى في مؤتمر بغداد، وبحكم صلات محبة عميقة مع الثورة الفلسطينية، رأيت نفسي مع الوسط الفلسطيني وأحاور أبو اللطف، مهندس السياسة الخارجية الفلسطينية وأحد أبرز وجوه الصف الأول لوزراء الخارجية، حديث مسهب نشر في حلقتين واسعتين بصحيفة الجمهورية الصادرة في تعز باليمن، ودوما ما أذكر كيف كان الرجل كريما معي، كصحفي شاب منخرط في مسار هذا الحلم العربي، صبورا معنا، مشجعا لي على إكمال الحوار، في أجواء قاعة الاجتماعات التي طلبت رئاستها اخلاءها من المراقبين والصحفيين، ثم اخلاءها من الوزراء أيضاً، ليبقى الرؤساء والملوك فقط، فقال أبو اللطف نكمل الحوار في مقر إقامته، وكان ذلك. يومها سمعت مذهولاً اشتعال القاعة الملتهبة ليس بسبب حرارة صيف بغداد، ولكن لشدة الخلاف، وسنحت لي الفرصة لأعرف سبقا صحفيا مغايرا لما يُنشر، بسبب تواصل الرجل وحضور أبو عمار رحمه الله الذي حكى معه سريعاً، أن الخلافات عميقة، وأتذكر لهجة أبو عمار المميزة بلكنة مصرية وحضوره الطاغي. ويومها خرج البيان الرسمي بتسمية القمة قمة الوفاق والاتفاق، ولكني كتبت خبرا مغايرا لأخبار الوكالة الرسمية، كسبقٍ صحفيٍ وأني مستندٌ لمصدرٍ قلت عنه إنه مصدرٌ رفيع، ذاكرا أن خلافا حادا ساد القمة. ونُشر الخبر وصارت بعده قصة عجيبة من أسئلة لم تتوقف لأجهزةٍ مختلفة، كيف ننشر شيئاً يعكر صفو الأمة، ومرّت علي أشهرٌ من الضيق حيث الكل يريد أن يعرف المصدر الرفيع، وأنا متمسكٌ بمبدأ عدم إفشاء المصادر، وتلك مدرسة صحفية انقرضت!. حتى كان اجتياح العراق للكويت بعد ثلاثة أشهرٍ فقط، في واحدة من أكثر انهيارات أمتنا التي أدت إلى أول وأكبر جريمة و تصدع عربي.
وعرف الكل الخلاف والصراع، وتنفست أنا الصعداء من توقيف ومتابعة، ولعلي أُذكِّر بما كتبه الأستاذ محمد حسنين هيكل في كتابه (أوهام القوة والنصر)، واصفا تلك الأجواء التي تشبه ما نحن عليه اليوم، من ترقب وقلق وفوضى لا ندرك إلى أين ستقود المنطقة والعالم، كما كنا يومها نقول مع (أبو اللطف)، الذي ساعد في سفري بموقف نبيل، غادرنا يومها القمة التي كنا نأمل أن تكون قمة الوفاق والاتفاق، فإذا بنا في لحظة جنون في هاوية خلاف لم يتوقف حتى اللحظة.
رحم الله فاروق القدومي، ونبقى على أمل أن يشرق فجر الوفاق على هذه الأمة، مهما طال ليل القهر والتشظي.