قدمت لي المكلا مفاجأة غير متوقعة في إحدى زياراتي لها ...
ذات مساء مكلاوي، حضرت واحدا من تلك الحفلات التي تقام في الهواء الطلق بالصدفة.. وهناك كانت المفاجأة التي اذهلتني ..سعيد ! هل هذا سعيد ابن عمي حقا الذي يغني ؟! لا ..لا ..لايمكن ان يكون هو .. ربما احدا يشبهه ..لكن الصورة صورته.. ..والصوت صوته . كنت اعرفه جيدا من ايام الطفولة والمدرسة، لكن لم أكن أعلم أنه يهوى الغناء او يحترفه.. او حتى يقدر عليه .. لكن لم يكن هذا سبب المفاجأة وحده، بل أن ابن العم هذا كان يعاني من التأتاة ولا يقول جملة واحدةإلا بصعوبة وبعد جهد جهيد ومعاناة شديدة، فكيف له ان يغني امام جمهور كبير ؟! وجمهور المكلا والحضرمي عموما جمهور ذواق صعب الإرضاء.
لكن درجة تقبل الجمهور لصوت وغناء سعيد في ذلك المساء والتصفيق الذي حظي به كان دليلا على انه تجاوز الاختبار ونجح فيه، ويبدو ان هذه الليلة لم تكن ليلته الأولى التي يواجه فيها مثل ذلك الجمهور ..الوحيد الذي كان متفاجئا كنت انا وحدي فقط..! صفقت لابن عمي وصديق طفولتي سعيد من كل قلبي .. كنت فرحا له وبه .. يبدو انه وجد اخيرا علاجا لعقدته النفسية التي سببها له العنف الأسري والتنمر الذي تعرض له في طفولته ..
***********
ولا يمكن ان تتعرف إلى المكلا دون ان تتعرف على البحر .. هناك ينبت غناء الصيادين ورقصاتهم، حيث يغزلون او يرتقون شباك الصيد مفترشين رمل السيف..
او يدهنون قواربهم الصغيرة، او يرمون شباكهم وقد غاص نصفهم الأسفل في البحر ..هنا يحكون حكايات البحر غير المكتوبة .. عن بحارة ابحروا بسفنهم وابتلعهم المحيط، او جرفت الانواء قواربهم ولم يعودوا ابدا .. عن صيادين عادوا بجروح اصيبوا بها من عضة سمكة لخم كبيرة” قرش “، او لسعة سمكة” سفن“ لكن ما ان برئت جروحهم حتى عادوا إلى البحر ... يتبادلون ذكريات قصص الغرق والجروح المؤلمة ويورثون ابناءهم نفس المهنة .. لايرمونهم إلى الموت بل رغبة في الحياة ...!
وصغار يسبحون يشبهون البحر وشخصيات البحر!
هناك داع لمزيد من الكتابة عن المكلا، لقد أحببت هذه المدينة وأشعر بنوع من التقصير نحوها، فهذه من المرات النادرة التي اكتب عنها، ليس عن تجاهل بل ان بعض المدن تظل في الذاكرة، تعيش معك في أي مكان تكون فيه..ويؤجج الشوق للوطن البعيد هذا الإحساس ...
لم تمنحني “المكلا “ رغم حبي الجم لها منذ أول لقاء أدنى فرصة لسبر اغوارها بسرعة، محتجبة خلف ذكائها الوقاد، وحيائها الذي يشبه حياء الأنثى، وايضا خلف تواضعها الجم، ووميض عينيها الذكيتين.. في اللحظة التي ابتعدت عنها، واوغلت في البعد صارت كالكتاب المفتوح، وقادتني إلى اعماقها ومجاهلها فلم يصعب علي حينئذ فهمها، ومع الوقت اكتشفت ان تمنعها ذاك الأول لم يكن دلالا بقدر ماكان اختبارا ....
مازال البحر يصل بيني وبين “المكلا “، والبحر أقوى موصل للتيارات ...!
***********
في إحدى لحظات الوصل النادرة تلك اخذتني إلى (خلف) وسرعان ما ارسل البحر رذاذه العذب وهواءه المنعش، والقمر ضوءه الأزرق الفضي ..كنت في لحظة محضارية كتلك التي صورها في أغنيته الشهيرة (سر حبي ) ومن غير المحضار يمكن أن يعبر عن تلك اللحظة على ذلك النحو البسيط والمدهش . “واجهتنا خلف بعد العصر والحاسد خلف....
والهواء يجري حوالينا يلف الموج لف...”
وكان هناك شاب على الصخور يبدو انه يملك سر البحر، وسر الصيد، وسر الحب ..بيده سنارة وفي كل مرة يرمي فيها السنارة يصطاد سمكة حتى امتلأت سلته بالسمك، والآخرون الذين يصطادون مثله يرمقونه باستغراب ..نفس البحر ..نفس المكان .. نفس السنانير،..ومع ذلك يبخل عليهم بسمكة واحدة.! هل هو الحظ ..ام يوم سعده؟ هل يعرف الصبي بينما يجهلون كل شيء عن اسرار صيد السمك، فيفوز ويفشلون ؟!!
في نفسي اخذت اردد : أرزاق..أرزاق..! سبحان الرازق سبحانه ...
بينما كان المحضار يقول: سر حبي فيك غامض ..سر حبي ما انكشف ...!