وهنا أود أن أطرح هذا الموضوع وأناقشه بموضوعية وحياد بعيد عن كل العواطف التي أكاد أجزم أنها ما زالت تدغدغ مشاعر غالبية اليمنيين وتشدهم نحو الوحدة، رغم ما اعتراها من تشويه ، واهتزاز قيمها ومثلها العليا، وما عانى منه اليمنيون وخاصة أبناء المحافظات الجنوبية والشرقية من جراء النظام الذي استحوذ على الدولة وأساء إلى الوحدة إلى حدٍ دفع بأعداد غير بسيطة للكفر بالوحدة وهي من كل ذلك براءٌ براءة الذئب من دم نبي الله يوسف. وهنا بيت القصيد، فلنفرض أن لدينا حاكماً - ملكاً كان أم رئيساً حيث علمتنا الأيام أنه في بلداننا المتخلفة لم يعد هناك فرق بين الاثنين- ويدعي هذا الحاكم إيمانه بالديمقراطية والتزامه بمبادئها، بل ربما أنه يصلي ويصوم لهذه الديمقراطية، إلا أنه في الواقع والممارسة يخالف كل ما يدعيه ويقوم بانتهاك أبسط مقومات الديمقراطية دون أن ترمش له عين أو ترتعش له فريصة، أو حتى يشعر بالخجل لكذبه المستمر على شعبه. فهل يدفعنا هذا الوضع إلى الكفر بالديمقراطية التي تعتبر قيمة إنسانية عالية، والاتجاه نحو نقيضها وهي الديكتاتورية بديلاً ومفراً، أم نعمل على مناهضة الحاكم وإجباره على تبديل وتغيير ممارساته المزيفة والسير نحو طرق الديمقراطية الحقيقية.
كذلك، عرفنا في تاريخنا الإسلامي أمراءً للأمة وللمؤمنين طغاة بغاة، خرجوا عن الدين في ممارساتهم العامة من جبروت وظلم وقهر وفي ممارساتهم الخاصة من سكر وعربدة، فهل دفعنا ذلك ومن سبقنا للكفر بهذا الدين العادل الذي لا يقبل ظلماً ولا يقر بظالم، معاذ الله أن نقبل بغيره عقيدة وشرعة ومنهاجاً، ولعن الله من طغى وتجبر باسم الدين وأعد له عذاباً شديداً ويصلى سعيراً. فكيف الحال، حين تفاءلنا خيراً واعتقدنا أن القدر قد التفت نحو أهل اليمن ليعوضهم عن معاناتهم لعقود طويلة، وليبارك لهم جمعهم بعد طول شتات ويوحد بلدهم وأرضهم لينعموا جميعاً بخيراتها. ولم يكترث أحدٌ منا حينذاك تحت تأثير الفرحة ولا تساءلنا كيف تحققت الوحدة وأسباب تحققها الآن وليس قبل ذلك، ونتبين من حققها وما هي خلفياتهم، وماذا عن ماضيهم والجرائم التي ارتكبت في حق الشعب جنوباً وشمالاً. كما لم يخطر في بال أحدٍ السؤال عن نوايا هذا الطرف أو ذلك تجاه الوحدة، ومصالح كل منها والتي استمرت لديها أهم وأسمى من مصالح الشعب.
لقد كانت الوحدة مخرجاً ومفراً لنظامين فاشلين، أرادا من خلالها المحافظة على ما يمكن الحفاظ عليه من سلطة وسيطرة على البلاد والثروة والعباد، واندفعا نحوها عندما أصبح البديل سقوط النظامين وتعريتهما أمام الشعب. ورغم التطبيل والتزمير لبضع سنوات، أراد الله أن يظهر كيدهما، وكانت النتيجة الحتمية لتعارض المصالح أن أدخلا الشعب في حرب مدمرة ليس للأرض فحسب وإنما للزرع والنسل. وكأن الله يأبى أن يحفظ لهما التاريخ عملاً جليلاً بقدر هذه الوحدة العظيمة. وهكذا استمر الطرفان في كر وفر، يوم لهذا ويوم لذاك، حتى يومنا هذا. فهل نلوم الوحدة على ما جرى لنا، أم نوجه أصابع وسهام الاتهام للطرفين اللذين تجاوزا كل الحدود في خداع الشعب وتضليله بوعود كاذبة واغتيال آماله وأحلامه. فلا وألف لا لاتهام الوحدة البريئة كل البراءة من جرائم وأفعال أولئك الذين لا بد أن يلقوا نتاج أعمالهم من شعبهم أولاً حين تتضح له الحقيقة إن عاجلاً أو آجلاً.
وهنا أيضاً لا أبرئ من سار وأعان النظامين في أعمالهم ومخططاتهم حتى لو كان حسن النية أو من باب تجنب الضرر، فمن أعان ظالماً أغري به، وكان أحرى على الله أن يعاقبه بأعماله. كما أن شعبنا في الشمال والجنوب على حدٍ سواء، قد سار في أغلب أحواله تبعاً لأولئك الحكام قبل الوحدة وبعدها، ربما جهلاً بأوضاع البلاد ومصالحها، أو خوفاً من سطوة النظام أو حتى طلباً للسلامة، ولهذا يتحمل هؤلاء جزءاً من المسئولية. والخشية اليوم أن نستمر في متابعة الظلم أشخاصاً أم منهجاً دون أن نعي مصلحة البلاد الحقيقية. أما آن لنا اليوم أن ندرك ذلك ونستبين الحق من الباطل، أليس الحق أن نتجاوز الأخطاء السابقة ونحفظ وحدتنا على أسس عادلة وكريمة، ونلفظ كل العابثين بمقدراتنا ومستقبلنا من الطرفين؟ أم نتجه للباطل الذي يجمله ويزينه المرجفون الذين خرجوا من أسوأ أبواب التاريخ ويستمرون في الإصرار على التمسك بالسلطة بأي طريقة وأي ثمن. لا والله، فالحق أحق أن يتبع، وكفى إثماً لأولئك الذين عبثوا بالبلاد عقوداً طويلة سواء في الشمال أم الجنوب، وآن لهم أن يتركوا شعبنا ينظر إلى مستقبله بعيداً عن تدخلاتهم ويحافظ على وحدته بما يستقيم مع قيم الأخوة والعدالة والكرامة.
إن الاتجاه نحو الحوار لمعالجة كافة قضايانا ومشاكلنا هو الفطرة، ويستوجب أن تتصدر الحوار وجوهٌ وعقولٌ تعبر عن قضايانا بحق وتبحث لها عن حلول وطنية مرضية، بعيداً عن الأشخاص الذين ما زالوا يعتقدون أنهم أوصياء على ثورتي سبتمبر وأكتوبر بعد مرور نصف قرن على الأولى وقريب من ذلك على الثانية، بل ويعتبرون أن الشعب في المحافظات الجنوبية والشمالية تركة خاصة يزايدون به وعليه للوصول إلى اتفاقيات تعيدهم إلى مناصبهم السابقة. وكأن غاية الشعوب ومبتغاها لا يتجاوزان ذلك، دون أدنى اهتمام بمصالح حوالي 25 مليون مواطن. فبأي منطق وأي جرأة يسوقون حججهم ويسوقون أكاذيبهم بلا حياء من الناس ولا من رب العباد.
إن الحوار الوطني الجاد والصادق كفيل بالحيلولة دون تفكك بلادنا الحبيبة، ولا يستطيع أحدٌ في حال حدوث ذلك -لا سمح الله- أن يمنع قيام دويلات عديدة وليس دولتين فقط. فإما أن نؤمن بالوطن الواحد ونعمل على تصحيح الأخطاء ومعالجة مشاكله، أو الاتجاه دون أن ندري نحو التشرذم والصراع. لا شك أن البديل الأول هو خيار العقل والعاطفة معاً، فلا تخذلونا يا إخواننا في المحافظات الجنوبية والشرقية الذين ما زلتم تدعون إلى فك الارتباط واصغوا إلى العقلاء وابتعدوا عن طلاب السلطة على حساب الوطن، فالله خيرٌ حافظاً وهو أرحم الراحمين.
* وزير التجارة والتموين السابق.