محمود العراسي يا خير محمود. في غمرة الحزن الشامل قلوبنا واعماقنا جميعاً .. برز أمامي الرجل ولقاءاتي الصحفية به مراراً، حين كان محافظاً لمحافظة عدن بابتسامته وكياسته ودماثة اخلاقه.
وأنا أسطر هذه الكلمات .. أشعر وكأن نور الرجل يشع من تراب قبره .. وأريج عطر تفوح به سيرته الذاتية النظيفة والعطرة. فمن مثله ندرة وقلائل، ومجافاة حقيقة كهذه لا تأتي إلا من جاحد.
عرفته كمحافظ لمحافظة عدن وكنا في تواصل مستمر في كل حدث تتناوله صحيفتنا آنذاك .. ففي تحقيق أجريته حول تحجيم قرص (الخبز) شمل كل جهة ذات علاقة بالمشكلة لم يكتف ذلك المحافظ بالتصريحات، بل تكرم ونزل بنفسه نزولاً ميدانياً شمل حتى اصحاب الافران، وهذا السلوك الحضاري الذي ينم عن ارتفاع وسمو في تحمل مسؤولية حياة الناس ولقمة عيشهم، لم يأت من أي محافظ لا من قبله ولا من بعده في تحسس آلام الآخرين.
العراسي لم تشغله ذاته كشأن الآخرين في تأمين مستقبل العائلة والأولاد. ولم تمتد يده يوماً إلى المال العام ولم يشيد فيللاً أو قصوراً أو مزارع بل شيد قصوراً شامخة من الأخلاق والعفة والتواضع التي تنحني لها الجباه أمام شخصه سواءً كان حياً، أم ميتاً، ترك خلفه ذكرى رجل ليت الآخرين بمثل أخلاقه وحجمه.
على تعدد واختلاف من شغلوا مسؤولية المحافظة اسطر شهادتي للرجل .. يبدأ صباحه بنفجان الشاي وجريدة (14 أكتوبر) وما أن يقرأ أي موضوع يتعلق بمحافظة عدن .. كان تلفونه الصباحي يرن في مبنى الصحيفة يسأل عن ذلك الحدث ويتواصل مع اصحاب الأقلام المعنية .. وهذا ايضاً له معنى عميق لروح الرجل وعظمة مسؤوليته واحساسه بها .. أكاد افتقدها في الآخرين الذين يتصلون بقيادة الصحيفة بحثاً عن صورهم واخبارهم ان غابت عن صدرها.
هذا هو الفارق بينه وبينهم بل وفوارق كثيرة .. فالرجل أياديه بيضاء نقية لم تتلوث بنهب المال العام كدأب الآخرين من اقرانه ولم تتلوث أيضاً بدماء أحد.
رحل الأستاذ والأخ القدير محمود العراسي رحيلاً أشعرنا بفداحة خسائر الوطن المجروح .. في وقت ما أحوجنا فيه لأمثاله .. وحالنا يحكيه قول الشاعر (في الليلة الظلماء يفتقد البدر) ويا للألم ويا للمصاب الجلل برحيلك يا محمود.