لن نخوض في النتيجة ولا في حسابات الفوز او الخسارة، فالفائز الحقيقي هي الجزائر العظيمة التي انتصر لها احفاد المليون ونصف المليون شهيد، وجعلوا ربيعها بعيداً عن غطرسة الناتو وهيمنة مجلس الأمن، في الوقت الذي كان مروجو ما يسمونه بـ(الربيع العربي)، يريدون ان يطبقوا نسخة مماثلة لما حدث في الانتخابات التونسية والمغربية والمصرية على التراب الجزائري، ظناً منهم انه لا مفر للجزائريين من المصير ذاته، او ينجروا لما حدث في ليبيا لا سمح الله.
بغض النظر عن الحزب الذي حاز على الاغلبية المطلقة في البرلمان القادم، الا ان الانتخابات افرزت تنافس 44 حزباً من مختلف التوجهات، بما فيها فئة الشباب الذين كان لأحزابهم المستحدثة مشاركة ارتكزت على التعديلات والإصلاحات التي اجراها الرئيس الجزائري عبد العزيز بو تفليقة قبل عام، وسمح من خلالها بدخول احزاب جديدة للمعترك السياسي، والذين تمكنوا من خلالها دخول البرلمان دون فوضى الشارع التي اصبحت تحريضا من قبل من لا يروق لهم حفظ الدم العربي، بالرغم من انه لم يمض على تشكيل احزابهم بضعة اشهر.
فشل اصحاب المشاريع الضيقة (الخارجية) التي كانت تريد ان ينحو المسار السياسي الى ما يحدث في المحيط الجزائري.. فالجزائرين دخلوا الانتخابات وبلادهم محاطة بتحديات كبيرة تمثلت في التغييرات التي اطاحت برؤساء تونس وليبيا ومصر ومالي، وجعلت الاوضاع فيها غير مستقرة لغاية الآن، وكذا التغيير في الخارطة السياسية بالمغرب الذي اشترك مع المصريين والتوانسة في وصول الاحزاب ذات التوجه الديني الى حصد غالبية البرلمان والفوز بالحكم.
قبل ان تندلع الاحداث التي بدأت في تونس من العام المنصرم، رافقتها بعض الاحداث الاحتجاجية المطلبية هنا في الجزائر، وراهن حينها جميع الذين لا يريدون الخير لهذا البلد بأن الشرارة بدأت ولن تنطفئ جذوتها، وقد نسي نافخو كير (الربيع العربي) أن الشعب الجزائري عانى خلال عشر سنوات كاملة بعضاً مما تعانيه اقطارنا العربية اليوم، حتى غدت الشوارع والبيوت اماكن للموت، ولم يلتفت حينها احد من العرب لما يحدث للجزائر، حتى تعافى هذا البلد العظيم ونفض عنه غبار المحنة، وخرج قوياً مما استعصى على الآخرين ان يذيقوه من نفس الكأس مرة ثانية، لأن المؤمن لا يلدغ من جحر مرتين، كما قال صلى الله عليه وسلم.
حتى ولو كان الاسلاميون هم من حققوا الغالبية فإن هذا لم يكن مفاجئاً نسبياً -على الاقل بالنسبة لي- لأنهم لم يكونوا بعيدين عن المشهد السياسي طيلة السنوات الماضية ان لم يكن بعضهم شريكاً في الحكم، في خارطة سياسية كانت مستبعدة في مصر وليبيا وتونس، فلم يكن يسمح في تلك البلدان بتكوين مثل هكذا احزاب فما بالنا بالمنافسة على الانتخابات... فوجودها عزز التجربة الجزائرية وجعل الناخبين يعرفون جيداً من ينتخبون من خلال تجربة تلك الاحزاب في العمل السياسي.
اجزم ان الفوضى التي تعيشها الدول التي غزاها (الربيع العربي) والتي ما زالت آثارها السيئة ماثلة للجميع، هي من ساهمت في عدم حصول الاحزاب ذات التوجه الديني على ما كانت تحلم به، وهو في الوقت ذاته الذي رفع نسبة المشاركة مقارنة بانتخابات 2007، فقد قاسى المواطن الجزائري ما يحدث في بلده وما يمكن ان يحدث، وهو ما رسخ قناعاته بأن الابقاء على الوضع - رغم عدم مثاليته من وجهة بعضهم- افضل بكثير من مصير مجهول، لا يعرف ما يحدث فيه إلا المولى عزّ وجل، غير ان النتيجة المسجلة تحتم على الحزب الفائز بالأغلبية -من خلال انفراده بتشكيل الحكومة او مشاركة احزاب اخرى له- مواصلة الاصلاحات السياسية والاقتصادية، لأن الشعب الذي انتخبهم هو من سيقّيم عملهم خلال الفترة القادمة، وعينه ستكون خير رقيب على اداء الحكومة المقبلة ومدى تطبيقها للبرنامج الاصلاحي الذي يقوده الرئيس بو تفليقه.
الجزائر بلد كبير بكل ما تملكه من خيرات وثروات، واهم تلك الثروات شعبها المجاهد الذي جبل على أن يظل ثائراً في وجه الاحتلال بكافة أشكاله، ولأن ما يحدث في الوطن العربي لا يخلو من التحريض الأجنبي من خلال قطفه لثمار الفوضى التي تعيشها بلداننا، وليس اقلها من أن تظل دولنا منكبة على معالجة اوضاعة المختلة، وجعل الدول الكبرى تعيد رسم خارطة المنطقة بالطريقة التي تريدها، وبدون ازعاج منا.
نبارك للجزائر شعباً عظيماً، وبلداً كبيراً، ما تحقق من نجاح في الانتخابات التشريعية، التي عززت قدرة الشعب الجزائري على اختيار ممثليه من دون ان يكون محتاجاً الى ربيع الصهيوني (برنارد ليفني) الذي اُعلن عن انهياره بالجزائر.. فبلد الامير عبد القادر وبن باديس ومالك بن نبي والإبراهيمي وبن بلة، ليس عاجزاً عن تحقيق ما يريد بسواعد أبنائه، الذين التفوا بكل توجهاتهم السياسية من أجل ان تظل الجزائر مالكة قرارها، ولا يتحكم فيها الاجنبي.. وعاشت اقطارنا العربية حرة ابية.