
كشف تحقيق استقصائي موسع لصحيفة نيويورك تايمز عن واحدة من أكثر عمليات التجسس سرية وخطورة في حقبة الحرب الباردة، حين تعاونت الولايات المتحدة والهند في منتصف ستينيات القرن الماضي لنشر محطة تنصت نووية على قمة جبل ناندا ديفي في الهيمالايا، بهدف مراقبة البرنامج الصاروخي والنووي الصيني عقب أولى تجارب ذرية أجرتها بكين.
وجاءت عملية "ناندا ديفي" السرية التي نُفِّذت في عام 1965، في سياق قلق أميركي عميق من تسارع التسلح النووي الصيني، وعجز واشنطن وحلفائها عن اختراق الصين استخباراتيا.
ورأت وكلة الاستخبارات المركزية الأميركية (سي آي إيه) أن الارتفاعات الشاهقة لجبال الهيمالايا قد توفّر منصة مثالية لاعتراض الإشارات اللاسلكية التي تبثها الصواريخ الباليستية الصينية.
اعتمد نجاح العملية على عنصر حيوي واحد، هو نصب مولّد نووي محمول يزن 50 رطلا وبحجم كرة شاطئية في أعلى قمة الجبل. ويعمل هذا المولد بالوقود المشع، وتحديدا البلوتونيوم.
لكي يتمكّن الفريق من إخفاء طبيعة مهمتهم، تم اختلاق قصة معقدة برعاية باري بيشوب مصور مجلة "ناشيونال جيوغرافيك"، حيث تم التظاهر بأن مهمة البعثة علمية بحتة تهدف لدراسة فيزياء الغلاف الجوي.
كان هذا الجهاز ضروريا لضمان استمرار عمل محطة التجسس في الظروف القاسية على مدى فترات طويلة، وقد احتوى على ما يقدر بثلث كمية البلوتونيوم المستخدمة في القنبلة الذرية التي ألقتها الولايات المتحدة على مدينة ناغازاكي اليابانية في التاسع من أغسطس 1945 أواخر الحرب العالمية الثانية.
ولكي يتمكن الفريق من إخفاء طبيعة مهمتهم، تم اختلاق قصة معقدة برعاية باري بيشوب مصور مجلة "ناشيونال جيوغرافيك"، حيث تم التظاهر بأن مهمة البعثة علمية بحتة تهدف لدراسة فيزياء الغلاف الجوي.
والواقع أن بيشوب كان قد حدّث الجنرال كورتيس ليماي رئيس القوات الجوية الأميركية، وأحد الصقور خلال الحرب الباردة، وأحد مهندسي إستراتيجية الأسلحة النووية الأميركية، عن المناظر التي توفرها قمم جبال الهيمالايا لمئات الأميال وصولاً إلى أعماق التبت والصين، ويبدو أن هذا الحديث قد أثار تفكير الجنرال لتتبلور فكرة عملية "ناندا ديفي" السرية.
غير أن تشغيل أجهزة المراقبة في بيئة معزولة كهذه تطلّب مصدر طاقة غير تقليدي، فوقع الاختيار على مولّد نووي محمول يعمل بالبلوتونيوم.
وتطلبت هذه المهمة، التي أقدمت عليها وكالة التجسس الأميركية بالتعاون مع الاستخبارات الهندية، أقصى درجات السرية. فقد كانت الولايات المتحدة والهند تشعران بقلق متزايد إزاء القوة النووية المتنامية للصين، التي فجّرت قنبلتها الذرية الأولى في أكتوبر 1964.
ولدفع محاولات التجسس قدما، وضعت الوكالة الأميركية خطة جريئة تمثلت في تركيب محطة تجسس متطورة على قمة ناندا ديفي، الذي يعد أحد أعلى الجبال في الهند.
تولّى قيادة العملية من الجانب الهندي القبطان إم. إس. كوهلي، ضابط البحرية والمتسلق المتمرس وأحد أبرز متسلقي الجبال في بلده، في حين لعب المصوّر والمتسلق الأميركي باري بيشوب دور المنسّق والمجنِّد للمتسلقين العاملين لصالح وكالة الاستخبارات، مستخدما غطاءً علميا زائفا بعناوين بحثية وبيئية.
ورغم تحذيرات متكررة من صعوبة المهمة وخطورة الجبل، فإن العملية مضت قدما وسط قدر كبير من الاستهانة بالتضاريس والطقس.
وفي 16 أكتوبر 1965، حاول الفريق نقل المعدات الثقيلة، بما فيها المولد النووي الذي احتوى على 7 كبسولات من البلوتونيوم الشديد السمية، إلى القمة.
اتُخذ قرار مصيري بترك المولد مؤقتا قرب نهر جليدي، مثبَّتا بسلاسل، على أمل استعادته في الموسم التالي، لكن عندما عاد الفريق في ربيع عام 1966 فوجئ باختفاء المولد بالكامل، ويُرجّح أن انهيارا جليديا جرفه إلى أعماق الجليد أو إلى شبكة المياه الذائبة التي تغذي روافد نهر الغانغ.
لكنّ عاصفة ثلجية والإرهاق وأعراض داء المرتفعات، عوامل أجبرت المتسلقين على التراجع قبل تثبيت المحطة. واتُخذ قرار مصيري بترك المولد مؤقتا قرب نهر جليدي، مثبَّتا بسلاسل، على أمل استعادته في الموسم التالي.
وعندما عاد الفريق في ربيع عام 1966 فوجئ باختفاء المولد بالكامل، ويُرجّح أن انهيارا جليديا جرفه إلى أعماق الجليد أو إلى شبكة المياه الذائبة التي تغذي روافد نهر الغانغ.
ومثّل اختفاء المولد كابوسا أمنيا وبيئيا نظرا لاحتوائه على مادة بلوتونيوم قادرة على التسبب في تلوث إشعاعي خطير أو استغلالها في تصنيع قنبلة قذرة.
وأثار ذلك ذعرا صامتا داخل الحكومتين الأميركية والهندية، مما دفعهما إلى إطلاق عمليات بحث سرية واسعة، شارك فيها الجيش ومتسلقون وخبراء إشعاع، لكنها فشلت جميعا بسبب طبيعة الجبل المتحركة والانهيارات المستمرة.
وفي ظل المخاطر الدبلوماسية الجسيمة، فُرض تعتيم كامل على القضية، وصُنّفت الوثائق، ومُنع المشاركون من الحديث، في حين أُغلقت المنطقة المحيطة بناندا ديفي لسنوات طويلة تحت ذرائع بيئية.
وعلى الرغم من الفشل، استمر التعاون بين وكالتي الاستخبارات الأميركية والهندية لتثبيت جهاز تجسس آخر يعمل بالوقود المشع على جبل أقل ارتفاعا في عام 1967، لكنه واجه مشاكل مماثلة حيث غاص هو أيضا في الجليد. وبحلول منتصف السبعينيات، أصبحت هذه الأساليب عتيقة مع بروز أقمار التجسس الصناعية.
وظل أمر المولد النووي سرا لأكثر من عقد، حتى كشف عنه المراسل هوارد كون في عام 1978. وأثار الكشف ضجة دولية في الهند، حيث استدعت حكومة نيودلهي السفير الأميركي وخرجت مظاهرات تندد بالسي آي إيه.
وكان القلق الأساسي منصبا على الخطر البيئي المحتمل، فجبال ناندا ديفي تغذي الأنهار الجليدية التي تصب في منابع نهر الغانغ، الذي يعد شريان حياة لمئات الملايين.
وعلى الرغم من أن الرئيس الأميركي آنذاك جيمي كارتر تعهد بالتعاون الكامل، فإن حكومتي البلدين التزمتا الصمت المطبق اتباعا لسياسة عدم التعليق على المسائل الاستخباراتية.
وشكل رئيس الوزراء الهندي في ذلك الحين مورارجي ديساي لجنة خبراء، خلصت إلى عدم وجود تلوث إشعاعي في ذلك الوقت، لكنها حذرت من أن تآكل الوعاء المعدني للمولد النووي في المستقبل يمكن أن يؤدي إلى إطلاق البلوتونيوم في النهر.
لغز مولّد ناندا ديفي لا يزال قائما بوصفه إرثا خطيرا لقرارات اتُّخذت في ذروة الحرب الباردة، ولا تزال عواقبها المحتملة تلاحق الحاضر دون إجابة حاسمة عن السؤال الجوهري: أين انتهت المادة النووية؟
وعلى إثر ذلك، استمرت الهند في عمليات مراقبة سنوية سرية للمنطقة حتى عام 2000، حيث توقفت بسبب تكلفتها وصعوبتها، بعد أن كانت مستويات الإشعاع المكتشفة في حدودها الطبيعية.
ومع مرور العقود وذوبان الأنهار الجليدية بفعل تغير المناخ، تجددت المخاوف من احتمال تحرر المولد أو تسرب البلوتونيوم إلى مصادر المياه، رغم عدم وجود أدلة قاطعة على تلوث حتى الآن.
ويزداد القلق من أن ذوبان الأنهار الجليدية المتسارع نتيجة لتغير المناخ قد يعيد ظهور المولد، وإذا تم كسر الغلاف المعدني الواقي، فإن ذلك سيشكل خطرا كبيرا بإطلاق مادة البلوتونيوم السامة التي تسبب السرطان في الكبد والرئتين والعظام، أو حتى إمكانية استخدامه في صنع قنبلة قذرة.
ويخلص التحقيق إلى أن لغز مولد ناندا ديفي لا يزال قائما بوصفه إرثا خطيرا لقرارات اتُّخذت في ذروة الحرب الباردة، ولا تزال عواقبها المحتملة تلاحق الحاضر دون إجابة حاسمة عن السؤال الجوهري: أين انتهت المادة النووية؟
