نكتب ونحن مثقلون بهم الوطن، متفاعلين مع كل ما يدور، أي منطقة فيه يصيبها الوجع يصيبنا، ونشعر بكل هم. فالوطن بالنسبة لنا جسد واحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى، وهي من صفات المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم.
مسكين وطننا الذي تعرض وما زال يتعرض للنكبات، وطن مثخن بالجراح وأخص هنا الجنوب منذ 67م، تلك الجراح التي تحتاج لطبيب مداوٍ. وبأكثر دقة، تحتاج لملائكة الرحمة.
فالوطن - شماله وجنوبه - مثقل بالتركة التي مازالت تدمي جراحه، وكلما لعق تلك الجراح لتندمل، أتى من يدميها ويتركها مفتوحة دون تطهير، تمتلئ بالصديد فتتعفن، وقد ينتهي بها الأمر إلى بتر العضو من جسد الوطن.
وبحكم أن الجنوب هو أقرب إلينا من حبل الوريد (مسقط الرأس والمسكن والمعاش) كنا جزءا من كل أحداثه، وهو مثقل بالجراح منذ 67م، وبالمعالجات الخاطئة والعمليات الجراحية الفاشلة، يفتقر للطبيب المداوي، والأنامل التي تجيد استخدام المشرط، وتعرف أين الوجع.. فالمشرط سيف ذو حدين، الأول معالج يقوم بعمليات جراحية ضرورية تطهر الجرح وتخلصه من الصديد وما فيه من خبائث القيح والدود والفيروسات، وحدّه الآخر مميت بأخطاء كارثية، عمليات جراحية خاطئة تستأصل أعضاء مهمة وضرورية لاستمرار الحياة، وتضعه طريح الفراش، كلما تعافى عضو منه توجه المشرط بحده السيئ ليقوم بعملية خاطئة لأي عضو فيه لتميته سريريا.
الجنوب يحتاج لمعالجة حقيقية لجراحه منذ 67م، تبدأ بوقف دائرة العنف التي لم تسمح للجنوب أن يتنفس الصعداء منذ الاستقلال، وجعلت من الجنوب حلبة صراع أيديولوجي، تطور ليصبح صراعا على السلطة والثروة، وما زال في حالة صراع بكل النعرات والكراهية، مع أن الجنوب لديه من المقومات -إذا ما استقر- ما يؤهله أن يكون في وضع سياسي واقتصادي أفضل. سياسي بحكم تجربة عدن كأول مدينة عرفت النظام الديمقراطي والتعدد السياسي وتعايش الأعراق والثقافات والأديان وحتى الأيديولوجيات، عرفت دولة النظام والقانون، إذا ما عاد روح النظام والقانون تعود للمدينة والدولة قدرتها على حسم الخلافات والاختلاف، فلو عدنا للنظام والقانون وبدون عنف نستطيع حسم أمرنا بما يرضي جميع الأطراف، روح النظام والقانون يمنح الحق بالتساوي بين الفئات بمختلف توجهاتها وأطيافها، يرسي قيما ومبادئ ويجرم النزعات الطائفية والكراهية والعنصرية والهيمنة والتسلط والاستبداد، وبالتالي يحد منها ليتفوق كل ما هو خير للجميع، لإرساء بيئة وطنية صالحة للتعايش والعيش الكريم.
واقتصاديا، فعدن كانت ثاني ميناء ومركز تجاري عالمي، قبلة للشركات والوكالات والبيوت التجارية المحلية والدولية، فيها مصدر رزق للجميع محكوم بنظام الإنصاف، حيث لا ظلم ولا تسيد ولا نهب وبسط واستحواذ.
هذه المدينة التي كانت منبرا ثقافيا وفكريا وسياسيا فيها تشكل وعي التحرر والاستقلال، وكانت منبت نواة الحركة الوطنية اليمنية، بها استقامت دولة الجنوب الفتية، رغم الجراح والدم النازف، استقامت الدولة على نظام إداري ومالي ومؤسسات دولة كانت قائمة بعدن، ورغم تسريح الكوادر وما حدث لعدن إلا أنها لم تبخل في المساهمة بإرساء دعائم الدولة.
وعندما تم إقصاء عدن بالتدريج حل محل كل كادر ومهني بديل بمواصفات الصراع على المدينة، انهار كل شيء وانهارت عدن، ومازالت تصارع حالة الانهيار، في دولة لم تعد تشبه عدن، تديرها عقليات مثخنة بالعصبيات والثأر القبلي، والصراع على عدن، وفي كل شيء عدن تُقصى، والمقصود هنا بعدن هو روح المدينة وثقافتها المبنية على أسس النظام والقانون، فالتعيين مبني على الكادر والمهنية ومواصفات الرجل المناسب في المكان المناسب، وهكذا عُرفت بقضاء عادل وإدارة حكيمة وحكم رشيد ومجلس شورى وحرية وتعدد الآراء والأفكار.
لن يستقيم الوطن إلا بمعالجات مهنية، وإدارة حصيفة، وعمليات جراحية تستأصل الفساد والاستبداد والهيمنة واحتكار السلطة، وتنهي تعيين الأنصار وذوي القربى والقرية. كل ذلك يحتاج لأنامل تتقن مسك المشرط، وأين تستخدمه، وتشق بروح ملائكة الرحمة لتنقذ الجسد ليتعافى وطن ويتعافى وضع البلد والناس المعيشي.
ما يحدث اليوم ما هو إلا استمرار لحالة الصراع، وتفجير مواقف وأزمات، وإثارة نزعات، والدفع بالقبائل لتحمي أرضها، والشعور بفقدان الثقة بدولة عادلة ومنصفة، جعلت من الوطن حلبة صراع بين مكونات سياسية وحتى ثقافية، الكل يبحث عن ثغرات ليدين الآخر، في ظل عدم تفعيل حقيقي للنظام والقانون القادر على الحد من المناكفة والاتهامات والتنمر والهيمنة.
الحل في ترسيخ النظام والقانون، وقضاء عادل، ومحاسبة الكبير قبل الصغير، لا يوجد نفوذ أقوى من النظام والقانون، ومحاسبة القيادة قبل القاعدة، والكل مربوط من عرقوبه.
