في زمن انقلبت فيه الموازين، وغُيّبت فيه المفاهيم، نتوقف اليوم عند شريحة كانت يوماً ما ضمير المجتمع وصوته الجهوري، كانت تُوصف بـ “السلطة الرابعة” لما تملكه من قدرة على مراقبة السلطات وتوجيه الرأي العام، واليوم لم تعد تلك التسمية الفخمة سوى ذكرى مؤلمة، بينما حل محلها وصف أكثر مرارة: “شريحة مسحوقة”.
نعم، هم الصحافيون، أولئك الذين كانوا قبلة المظلوم، يناصرون المطالب العادلة، ويكشفون عن المظالم، ويحملون هموم الناس، بل ويساهمون في بناء المؤسسات وتنمية الأوطان، ها هم اليوم يعيشون وسط الدائرة المظلمة التي طالما حذروا منها مراراً، يواجهون ظروفاً معيشية قاسية، تكاد تجرّ البعض إلى حافة الفقر، وآخرون ترمي بهم في خضم التطبيل والتزلف والإطراء، ليس بسبب تقصير منهم، بل لأن المهنة نفسها لم تعد قادرة على تأمين أبسط مقومات الحياة الكريمة.
تتداخل عليهم أصناف الظروف التعيسة، لا تكتمل صورتها إلا بالمزيد من الإحباط: أعباء المعيشة المتصاعدة، ورواتب متدنية لا تواكب الغلاء، لمن يمتلكون الوظائف وغياب تام للتأمينات الاجتماعية والطبية، بينما يعمل الكثير منهم من دون عقود أو وظائف مستقرة، أو لوائح تنظم أعمالهم وتحميها من الانتحال داخل المؤسسات، ما يجعلهم يعيشون حالة من “الانزياح المهني”، حيث يسرق العمل حياتهم بصمت، فتضيع أيامهم وآمالهم وهم يعانون من أوضاعهم الشخصية المريرة.
لقد اتسعت هوة المعاناة مع اتساع فضاء الفوضى “الخلاقة” للمهنة، التي كانت يوماً مصدر فخر وإبداع، وتحولت إلى مصدر قلق وجودي، أصبح الصحفي يعيش حالة من “البؤس المعيشي والمهني”، حيث لم تعد المهنة فناً أو رسالة فحسب، بل تحولت إلى “لعنة” تطارده في كل منعطف، أو حافة يركن إليها. الصحافيون هم من الطبقات الثقافية الواعية، التي تدرك حجم المأساة، ولا تقدر على تغييرها مما يضاعف من ألمهم وإحساسهم بالمهانة.
ومع انفجار ثورة المعلومات واتساع فضاء الرقمنة، التي هددت عمالة العالم أجمع، أصبح الصحفي أكثر المتضررين. لم تكن الرقمنة مجرد تحول تقني، بل كانت زلزالاً هز أسس المهنة، انفجار منصات التواصل الاجتماعي، ومشهوري الغفلة، وأرباب المحتويات التافهة، مع سباق الأخبار السريع دون تمحيص، واستبدال الخبر الموثوق بالمحتوى السريع الجاذب من غير معايير، كلها عوامل أفقدت الصحافي أهم أسلحته وقيمة الخبر ومصداقيته.
بات الصحفي التقليدي يتقاذفه بحر من المنصات غير المنضبطة، تتنافس على “المتابعات واللايكات” وليس على الحقيقة، مما أفقد المهنة بريقها وقيمتها السوقية، وأصبح “الوكر الرقمي” يهدد عرش الصحافة التقليدية، ليفرغه من مضمونه ويجعله سلعة رخيصة بين أوساط المجتمع وفي سوق المعلنين.
إنها معادلة صعبة، كيف لضمير الأمة أن يضعف؟ وكيف لمرآة المجتمع أن تكسر؟ إذا كان الصحفي منهمكاً في البحث عن قوت يومه، فكيف له أن يراقب السلطة، ويكشف الفساد، ويحمل هموم الناس؟
إن إنقاذ هذه الشريحة ليس منة أو هبة، بل هو استثمار في ضمير الوطن وأمنه الفكري، فالاهتمام بأوضاع الصحافيين المعيشية والمهنية، وضمان استقلاليتهم، وتطوير أدواتهم لمواكبة العصر الرقمي دون أن يذوبوا في فضاءاته الفوضوية، هو السبيل الوحيد لإعادة الاعتبار إلى “السلطة الرابعة” الحقيقية، سلطة الحق والكلمة الصادقة.
