تأثير الاتجاهات الإقليمية على الخطط الاستراتيجية الأمريكية في الشرق الأوسط


14 أكتوبر / خاص:
نجمي عبدالمجيد:
هذه الرؤية قدمت للمؤتمر حول الشرق الأوسط والخليج العربي الذي عقد في كلية الدفاع الأمريكية في واشنطن دي سي بتاريخ 21 يناير 2000م.
ويعد الدكتور مارك غاسيوروفسكي صاحب هذه الأطروحة أستاذ العلوم السياسية في جامعة ولاية لويزيانا أحد رجال التخصص في دراسات وبحوث سياسات العالم الثالث في حقول الأزمات والصراعات في الشرق الأوسط والاقتصاد السياسي المقارن والدولي، كما عمل أستاذا زائرا في كلية القانون والعلم السياسي في جامعة طهران، وهذا الاقتراب من ايران جعله يقدم عام 1991م على تأليف كتاب (السياسة الأمريكية والشاه: اقامة دولة الاتباع في ايران) وكان قد نشر عام 1990م كتاب (لا شرق ولا غرب: إيران والاتحاد السوفيتي والولايات المتحدة).

- إيران لن تترك دورها في المنطقة حتى لو كان الثمن استخدام أسلحة الدمار الشامل
- أجهزة المخابرات الأمريكية ظلت ترصد المجريات في إيران كي ترسم كل احتمالات انفجار الموقف
- الدراسات تقدم لنا آليات الفكر الاستراتيجي الأمريكي نحو القضايا السياسية في الشرق الأوسط
- المراكز السياسية في إيران تسعى لتسويق الشعارات الإسلامية ولكنها تعمل بعنف لفرض المذهبية الشيعية
في هذا التصور يدرس الباحث عدة اتجاهات تترك اثرها على صنع القرار في السياسات الايرانية، ويقف أمام السيناريوهات التي من المحتمل ظهورها وهل تصبح من العوامل المعرقلة لاستراتيجية السياسة الأمريكية في الشرق الأوسط؟!
نحن هنا في هذه القراءة نقف أمام بعض مما طرح، مع قياس حسابات المسافة الزمنية منذ طرح هذا المنظور وما يحدث الآن من تصاعد لحدة المواجهة بين ايران وإسرائيل وأمريكا، وجعل منطقة الخليج العربي ساحة صدام مدمر قد يدخل فيه استخدام اسلحة الدمار الشامل. وهذا النوع من الدراسات لا تحصر فيه النظرة عند زاوية محددة في الزمان والمكان بل يظل مفتوحاً على المراحل القادمة من تصاعد مراحل الأحداث، وما يجري في اليوم هو ما تراكم من مجريات الأمس.
هذا هو الخط الفاصل في بناء العلاقة القائمة على فرض سياسة الطرف الواحد بين ايران والمحيط الاقليمي والدولي. من المحاور التي طرحت في هذا البحث: (الاتجاهات في الرأي العام: هناك عدة عوامل متداخلة أحدثت تبدلاً مثيراً في الرأي العام الايراني في السنوات الأخيرة، وكونت ضغطاً شعبياً قوياً من أجل الاصلاح. أولاً: ان التعاطف الثوري الذي سيطر على ايران في مطلع ثمانينيات القرن الماضي اختفى عملياً لان الايرانيين أدركوا انه لا يمكن الوصول إلى الكثير من المثاليات الثورية ولان التجاوزات والمظالم ازدادت وضوحاً.
ثانياً: ان مجموعة احفاد الثورة الواسعة والأفضل ثقافة أصبحت الآن بعمر 16 20 سنة ودخلت الحلبة السياسية مما خلق كتلة أساسية من الشباب البراغماتيين المحنكين نسبياً الذين لا ينجذبون عموماً إلى النظام الإسلامي ويؤيدون الاصلاح بقوة.
ثالثاً: ان الصعوبات الاقتصادية التي استعرضناها آنفاً سببت استياء واسعاً من النظام وتحرراً مهماً من وهمه ولاسيما بين الشباب الذين تبدو توقعاتهم المستقبلية كئيبة في الكثير من الحالات) .
تكشف لنا هذه الرؤية عن ركائز التصدع في عمق المجتمع الايراني، وبالذات عند جيل الشباب الذي يرى فيه الباحث القوة المحركة والدافعة لمطالب الاصلاحات في السياسة الايرانية .
هنا تبدأ مراحل الصراع بين الشارع ورجال الدين اصحاب السلطة النافذة في التركيبة الروحية المذهبية في المجتمع .
فقد استخدمت القوى الحاكمة كل وسائل العنف ضد تحركات الشارع، بل ضربت في مقتل المعارضة في الداخل والخارج حتى تظل سلطة القيادة عند محورها.
ويرى الكاتب ان هذا الضغط الشعبي يتحرك وبقوة عند ثلاثة ميادين هامة ومحورية.
الأول وهو الأهم الجانب الاقتصادي، حيث ظلت وعود الثورة الاسلامية في تغيير وضع المواطن منذ عهد الشاه في اطار تسويق الأكاذيب السياسية وتخدير الجماهير ومازالت حالة مستويات الحياة حتى اليوم تنحدر إلى أدنى درجات الفاقة.
أما في الجوانب الاجتماعية والثقافية فقد نقلت الثورة الأمة إلى حقبة المعتقلات العقلية، لقد وعدت بالحرية الفكرية ولم تنزل على الجماهير إلا قيودا ضربت حول العقول عبادة الفرد وتقديس الخرافات وجعل المذهبية هي العامل الروحي المسيطر على اتجاهات الرأي العام.
ومارست هذه السياسات عمليات غسيل أدمغة عبر حقب حكمها لايران، مما عمل على مسخ درجات الوعي عند العامة إلى حد كبير.
لكن الباحث في هذا المضمار يقف أمام عدة نقاط هامة تجعل مستوى الرؤية يعيد النظرة في نوعية العلاقة بين المجتمع الايراني والسلطة الحاكمة، وهي حسابات قد تجعل المراقب لهذا المشهد ينتقل إلى أكثر من مربع. وفي هذا يقول: (ومع ان الرغبة في الاصلاح واسعة وعميقة، فان اقلية بسيطة فقط من الايرانيين تعارض النظام الاسلامي، ويدل على ذلك الأحاديث العرضية وحضور صلاة الجمعة والالتزام الواسع بزي اللباس المحافظ الذي يعد على نطاق واسع كبيانات للأفضلية السياسية. علاوة على ذلك فإن الكثير من الايرانيين الذين يعارضون النظام الاسلامي لا يؤيدون القيام بخطوات فعالة ضده؛ لانهم يسلمون بانه يحظى بشعبية واسعة ويعتقدون ان التغيير التطوري البطيء فقط هو الوسيلة العملية والدليل الأكثر وضوحاً على أن اقلية صغيرة هي التي تريد العمل بنشاط ضد النظام هو اعمال الشغب التي قادها الطلاب عام 1999م.
فقد بقيت اعمال الشغب محدودة تقريباً ولم تنتشر إلى قطاعات شعبية اخرى. وهكذا فان التحرك نحو الاصلاح الذي تجسد بانتخاب خاتمي يسعى إلى تحرير النظام الاسلامي بدلاً من تعريته.
لا شك في ان هذا الضغط الشعبي من اجل الاصلاح سوف يستمر في التنامي خلال السنوات الخمس عشرة التالية لأن أطفال وأحفاد الثورة يصبحون على نحو متزايد ممثلين مهمين وان الصعوبة الاقتصادية تتواصل ويصعب تفاديها كما يبدو، ومادام اصلاح ذو مغزى ممكناً فان القوى الاجتماعية التي تؤيد مثل هذا الاصلاح سوف تواصل العمل بصورة سلمية ضمن معلمات النظام الاسلامي لتغذيته. ولكن إذا اضمحلت التوقعات بالاصلاح فان القوى التي تؤيده - ولا سيما الشباب - يمكن ان تنقلب على النظام وتلجأ إلى العنف كما حدث في اعمال الشغب التي وقعت في تموز عام 1999م) .
في مجال العلاقات الخارجية يظل شكل التواصل مع الغرب يقف عند بعض المحاور، منها أن مسألة التقارب مع أمريكا لم تصل إلى حد الحفاظ على دورات المصالح العامة بل ترصد من خلال ارتفاع درجات التصادم عند سياسة الهيمنة على المنطقة. وهي في نفس الوقت لم تنتج قاعدة واسعة من التأييد الشعبي الذي يمهد الطرق أمام محاولات مد الجسور من ايران نحو الغرب .
وبالرغم من ان هناك تأييداً قوياً في ايران لوجود آلة عسكرية مقتدرة ومعارضة ضعيفة لتطوير اسلحة دمار شامل، ولهذا فان الاعتدال في هذا الحقل يمكن ايضاً ان يواجه معارضة شعبية مهمة.
هذه نقطة هامة في محور الارتكاز السياسي لإيران عبر القوة العسكرية الضاربة في المنطقة.
كان يرى الباحث أن السياسة الإيرانية سوف تدخل فترة من الاعتدال تجاه الغرب، بل ربما تصل إلى نقطة يتم من خلالها إعادة صياغة المحاور المختلف عليها، كي تتجاوز المنطقة العودة إلى هيمنة الصدام السياسي والعسكري.
لكن هذا الانقراض قد وصل اليوم إلى الحائط القاطع بين كل طرف.
فما كان يظن به من الاعتدال، هو منطلق لرصد وترقب وإعادة بناء لمنطق السيطرة، وسياسة ضبط النفس التي سوقت في إدارة الأزمات، رسمت أهدافها كمحطة لا تعني بعد تجاوزها إلا استدعاء قوة المواجهة، وهي عقيدة في المذهبية الشيعية التي لا ترى في ما يحيط بها إلا اعتداء وعدواً يجب أن تسخر له كل وسائل القتال.
وفي هذه النقطة التي تدور على أكثر من محور يقول الباحث : ( إن الاجماع حول هذه المبادرات والمبادئ يوحي بأنه من المحتمل أن تبقى ركناً مهماً في السياسة الإيرانية الخارجية على المدى المنظور، بصرف النظر عن حدوث أي من السيناريوهات السياسية المحلية التي درسناها آنفاً .
ونتيجة لذلك، سوف تواصل إيران بالتأكيد ممارسة ضبط النفس في المنطقة خلال السنوات الخمس عشرة التالية، وتعمل باتجاه تسوية كاملة لعلاقاتها مع بلدان الاتحاد الأوروبي والعرب المعتدلين والمحافظين، وتتبع سياسة خارجية مستقلة تؤيد البلدان الإسلامية والنامية، وتحتفظ بآلة عسكرية قوية، وسيتواصل بالتأكيد تقريباً التخطيط العسكري الإيراني لتطوير بعض القدرات على الأقل، بأسلحة الدمار الشامل التي لا تفتقر إلى الشعبية بين معظم الإيرانيين وهي مقبولة عالمياً إلى حد ما في أوساط النخبة السياسية كوسيلة للردع الذي هو حيوي بالنسبة للأمن الإيراني) .
تطرح قضية السلام بين العرب وإسرائيل من وجهة النظر الإيرانية على إنها محاولة تحجيم الحضور الإيراني في إستراتيجية صنع القرار في المنطقة .
وهي تعمل عبر فرقها المسلحة مثل حزب الله في لبنان وحركة حماس في فلسطين والحشد الشعبي في العراق ونظام الحكم السابق في سوريا، والتواصل مع جماعات المذهب الشيعي في عدة دول في العالم كي لا تسمح بتجاوزها عند تحديد المواقف.
وتسعى إيران، عقائدياً وعبر المال والسلاح، إلى إعادة رسم خرائط المنطقة، فهي ترى في عمليات تفجير الصراعات المسلحة بوابة تدخل منها إلى مواقع غير مستقرة. وفي هذا ما يقلب لعبة موازين القوى بين حقبة وأخرى، وجعل الأرضية غير متجانسة مع أي مشروع سياسي يكون خارج رغبة إيران .
إن النخبة السياسية الحاكمة في إيران تدرك هذا، وهي تعمل على توسيع دورها حسب ما تفرضه ظروف الأحداث؛ لذلك لعبت تلك النخب على إضعاف الرأي العام المعارض مقابل الحفاظ على شرعية استمرار النظام، وهذا هو الهدف الأكبر الذي تلتقي عنده كل الأطراف، واي تراجع أو اختلال يعني سقوط الدولة الشيعية الطامحة لمد النفوذ نحو مواقع المصالح الاقتصادية والسياسية، وتوحي بعض الانقسامات الحزبية في إيران والتي تستبطن هذه القضايا بأن التقدم في كل منها سوف يعتمد - جزئياً على الاقل- على مسيرة الصراع على السلطة خلال الفترة القادمة، غير إن بوابة الحرب التي فتحت بينها وبين إسرائيل، تطرح إيران أمام نظرية مدمرة وهي سيادة طرف واحد في المنطقة، وفي هذا خطورة في نوعية السلاح المستخدم في الحرب.
وفي مجال مضامين المصالح الإستراتيجية الأمريكية يقول الكاتب : (يمكن ان نؤكد إلى حد ما بأن إيران ستواصل خلال الخمس عشرة السنة التالية ممارسة الردع في المنطقة، والعمل باتجاه تسوية كاملة لعلاقاتها مع الاتحاد الأوروبي والبلدان العربية، وقيادة سياسة خارجية مستقلة، والاحتفاظ بآلة عسكرية قوية. وأنه من غير المحتمل أن تشكل تهديدا عسكرياً مباشراً لقوات الولايات المتحدة أو لحلفائها في المنطقة كإسرائيل وتركيا والعربية السعودية والبلدان الأخرى في مجلس التعاون الخليجي.
ومن غير المحتمل أيضاً أن تشكل إيران تهديداً عسكرياً لجيرانها الآخرين، ما لم يقدموا هم بتهديد مصالحها مباشرة كما فعلت طالبان في خريف عام 1998م. سوف تستمر إيران بالتأكيد تقريباً بتطوير أسلحة الدمار الشامل، مما يشكل هماً إستراتيجياً رئيسياً للولايات المتحدة، ومع أن القادة الإيرانيين يمكن أن يظهروا بعض المرونة حول هذه المسألة فإنه من غير المحتمل كما يبدو أن يتخلوا عن تطوير أسلحة الدمار الشامل تماماً في غياب حظر شامل على هذه الأسلحة في المنطقة).
كانت هذه النظرة في حسابات تلك الحقبة تطرح نوعية من الاحتواء لإيران كمشروع ما زال في إطار الفكر الإستراتيجي الذي لم يصبح ركائز عسكرية قادرة على جعل إيران حدوداً من الصعب تجاوزها في المنطقة .
هذه المسافة ما بين حق إيران بفرض قوة السلاح النووي، وتقديرات إسرائيل والغرب في جعل إيران تحت الخط الفاصل بينها وبين سلاح القوى العظمى .. هو ما وصل إليه مسار اليوم من قرار في تدمير ركائز هذا التصنيع العسكري .
لقد فشلت سياسة وضع إيران في دائرة الحصار الاقتصادي والسياسي، ولم تخرج حركات المعارضة من الداخل، قوة فاعلة في إسقاط دولة المذهبية وحتى جر إيران إلى حرب مع العراق، لم تخلق إعادة لتركيب صورة المشهد السياسي.
والمواجهات الأخيرة بين إسرائيل وإيران والتي جعلت ميزان القوة بين الدفاع والهجوم في وضعية غياب الحسم التام، أو فرض محور واحد في منطق القوى، أكدت أن المنطقة لن تصبح لطرف منفرداً إلا عبر إبادة واحد منهما، وهذا الفعل القتالي المرعب، تحت حق استخدام القوة التدميرية النووية، يجعل منطقة الخليج العربي وما فيها من مصالح الغرب خط الاستهداف الأول من عند إيران.
إن الدراسة بما قدمته من صور عن مفارقات إيران الداخلية أكدت أن مسألة التواصل مع الأطراف في المجتمع الدولي، مهما وصلت في درجات التقارب لن تسحب قضية الحق الإيراني في امتلاك القوة النووية.
بل عملت إيران على تطوير ترسانة صناعة الصواريخ العابرة للحدود، التي نسفت كل فرضيات حماية العمق الإسرائيلي، ونقلت الحرب إلى داخل المنازل اليهودية، وهو ما كان من مقدسات الدفاع والسلام في كل حروب إسرائيل مع العرب. حيث يجب أن تكون المعركة خارج أرض الميعاد. بل على المؤسسات العسكرية رسم حدود ومسافات تعد الجدار الصلب الحامي لهذا الوجود، لذلك فقد مهدت لنا مثل هذه الدراسات العديد من المسائل، ولعل أخطرها، قضية توجيه ضربة مدمرة لصناعة السلاح في إيران، وما يكون من ردها الذي سوف يدخل المنطقة في محرقة ليس من السهل تجاوزها.