(4)
في فترة من الفترات كان مدرسة إبتدائية، ثم تم تأهيل الدور الأول منه ليكون مدرسة ثانوية وافتتح الصف الاول في عام 1966م، العام قبل الأخير من حكم السلطنة القعيطية. وكان ابن عمتي عبدالله عمر المضي من تلاميذ الدفعة الثانية في العام الذي تلاه، وقضى هناك عامين دراسيين واكمل المرحلة الثانوية في ثانوية المكلا ، وله ذكريات عن الفترة التي عاش فيها في حصن بن عياش إذ كان مدرسة وسكنا (داخلية) في نفس الوقت، واغلبها يتعلق بالجانب الغربي الجنوبي حيث البئر، والظلام اكبر باعث للخوف ..تلك المنطقة كما يتذكر كانت ؛”مظلمة ومخيفة و”زؤبة” خصوصا عند البئر، تصور وانت تغرف الماء بالغِرب وتغتسل عند المساء...وفجأة تجد نفسك وحيدا فينتابك شعور غريب جدا يصعب حتى شرحه ، تتراءى لك اشياء ، وتسمع اصواتا ، وتتحاشى الا تصرخ حتى لايتهمك زملاؤك بالجُبن ...”
اولادا كانوا ، والأولاد في هذا العمر لايلتزمون الحذر : “كنا نقوم بحركات في منتهى الخطورة للوصول إلى البئر، فبدلا من النزول عبر الدرج والمرور بساحة المدرسة والاتجاه للركن الجنوبي الغربي حيث البئر، كنا نقفز على الجدران العالية دون ادنى احتراز اواحتساب للمخاطر وما يمكن ان ينجم عن تصرف كهذا. كانت السقطة من هذا النوع ستؤدي بنا للموت،، لكن الله سلم وكان لطيفا بنا فلم يمت احد.. لأن أحدا لم يسقط ...”
زملاء الرحلة وانا ، كان يحلو لنا اللعب والاختباء ولعب الغميضان بين دهاليز واروقة الحصن ، واحيانا نتمادى فننزل إلى السراديب المخيفة اسفل الحصن لاكتشاف ماذا يوجد هناك فنعيش لحظات من الرعب ، وتظهر لنا أشباح لانعرف من شدة خوفنا إذا كانت حقيقية ام من وحي الشعور بالخوف وانسجة الظلام ..كنا نفكر فقط في اللعب...
فيما بعد عرفنا ان السراديب كانت مخصصة في الماضي لتخزين المؤن الغذائية والسلاح لمواجهة وقت الأزمات وأزمنة الحرب ليتمكن المدافعون عن الحصن والمدينة من الصمود في وجه اي حصار ..وكانت الشحر بحكم موقعها الإستراتيجي ومكانتها السياسية والتجارية عرضة للغزوات من البحر ومن البر ، وقد سورت نفسها بسور يحميها من الغزوات والهجمات، وسدة الشحر من معالم المدينة الباقية التي حافظت عليها .
(5)
تعرف “سعاد “ انني احبها ، ولا أستطيع العيش بدونها وبدون البحر .. واحيانا نشعر كأننا توأمان لايستطيعان الافتراق . وكنت اقول مع المحضار “قابليني ياسعاد والبسي ثوب السعادة “ فتأخذني إلى البحر، ونضع أقدامنا على مطارح جدنا الحضرمي العظيم وتجعلني استمع إلى قرقرة الموج .. وتطلب مني ان افك شفرة الماء! وعندما اقول لها لا أعرف ! تقول لي كيف تحب البحر ولاتعرف ان تفك شفرتي؟! اقول لها وهل تعرفين انت ؟فتجيب لم أستطع ان اعيش يوما بدون البحر ولهذا اعرف لغة الماء : “هنا نسجت قصتي الشخصية” قالت، واستعادت تاريخا عاشته والبحر. عمره آلاف السنين ، وغمرها حنين مفاجئ إلى زمن كانت فيه سوقا مهما لتجارة البخور والتوابل والصبر والبز والمصوغات الفضية ، وكانت بوابة حضرموت على المحيط الهندي، ولعبت دورا كبيرا في العصور الوسطى في الشبكات التجارية في المحيط الهندي. اخفيت عنها تاريخي البحري المتواضع ..الولادة الأولى في حيس بجانب ميناء صغير على الشاطئ الإفريقي، ثم رحلاتي الى القرن وشرمة وعدن والمكلا ، ثم روستوف ، الإسكندرية ، العقبة، اللاذقية ، روستوك ، بيروت لكن ترتيب هذه الرحلات مازال غير موثوق !
(6)
شممت رائحة بخور لا ادري اسال من شعرها المتماوج أم من الساحل حيث كنا نفترش الرمل الناعم .. في الحالتين كان ذاك عبق التاريخ الذي ورثته عن “قنا” اكبر موانئ حضرموت الذي كان يعتبر مركز التجارة للبخور القادم من جنوب شبه الجزيرة العربية . كان “ ماركو بولو”يرى فيها “مدينة عظيمة “مزودة بميناء رائع له مكانة تاريخية على خليج المحيط الهندي في القرن الثالث عشر.” وكان على حق ، “فلا يوجد ميناء آخر يعود إلى العصور الوسطى محتفظاً بكل هذا التراث التاريخي فقد كان ميناء الشحر عاصمة المنطقة فعلاً ونقطة بحرية وموقعا تجاريا لجميع السلع التي كانت تأتي عبر البر والبحر أو تلك التي كانت تصنع أو تنتج (السمك والبخور والعنبر والأقمشة والفضة… الخ). كانت تلك البضائع تصل إلى حضرموت بل وحتى المناطق البعيدة مثل عدن والساحل الافريقي والخليج العربي وجنوب الهند وربما إلى كانتون وهو ما يفسر الشهادة التفصيلية لماركو بولو تلك ...” ( كلير هاردي جيلبير- مدينة الشحر بوابة حضرموت على المحيط الهندي )
***
نظرت إلى البحر تارة ، وإلى “سعاد” تارة ، هنا كان يدور التاريخ المجيد للمدينة ، وتاريخ الذين حكموا الشحر . كلهم مروا من هنا ؛ الكنديون ، بادجانة، آل إقبال ، الرسوليون ، الظاهريون ، الكثيري، بن بريك ، الكسادي، والقعيطي ، وبقيت الشحر ... ...
(ولمدن البحر بقية )