برا سافرت على ظهر شاحنة بضائع مع الشاب الذي تعرفت عليه توا إلى بلدته في حيد الجزيل بوادي دوعن غرب حضرموت، دعاني ولم ارفض، دفعني الفضول الى قبول دعوته، تواً كنت عائدا من زيارة حضرموت الداخل، ومدنها الرئيسة سيئون وتريم وشبام حيث رافقت وفدا سياحيا، لكني لم ازر دوعن ولا مرة..كان هذا من أسباب قبول دعوته بدون تردد...
كل سفر يقدم لك فائدة جديدةومعرفة كنت تجهلها، كرم الله وجه من قال ؛ “سافروا ففي السفر سبع فوائد..”
حيد الجزيل، التي وصلنا إليها بعد رحلة شاقة كانت واقعة على ارتفاع ( 150 ) مترا عن سطح الوادي، تسلقناها مشيا على الأقدام، وحتى اليوم لا أعرف كيف فعلت ذلك، ليس مرة واحدة بل عدة مرات..
حيد الجزيل.. لا تصدق، بالنسبة لي كانت هدية من السماء..قرية من قرى الأساطير.. وكأنها تسلك طريقها إلى الفضاء...
وصفتها جريدة “ ديلي ميل” البريطانية بأنها تبدو وكأنها من كوكب آخر.. وتشبه إلى حد كبير مملكة الخواتم التي ظهرت في سلسلة الأفلام الشهيرة التي تحمل نفس الاسم.. تطفو على صخرة ضخمة مع جانبين عموديين، وسط مناظر طبيعية مدهشة في وادي دوعن، أحد أودية غرب حضرموت حيث يقع بين الجبال والهضاب العالية...
بعد عدة أيام، مللت خلالها اكل اللخم في حيد الجزيل قال لي مضيفي :
- سأغذيك اليوم سمكا طازجا...
لم أصدق، فنحن بعيدون عن البحر.. واقرب مدينة على البحر وهي المكلا تبعد عن الحيد نحو 175 كيلو مترا..
ونحن نسبح في بحيرة صغيرة في اسفل الوادي تكونت من بقايا الأمطار والسيول قال مضيفي:
- ستأكل سمكا طازجا كما وعدتك...
نظرت إليه باستغراب :
- كيف ؟!
أجاب:
- من البحيرة..
- وهل فيها سمك ؟!!
قال : نعم..
قلت ببلاهة: حتى لو كان فيها، كيف سنصطاده ولم نحضر سنارة او شبكة..
من منديل صغير كان يحمله اخرج حبات بن مغلفة بعجين دقيق والقاها في البحيرة.. بعد قليل طفت على السطح عدة سمكات، دهشت لحجمها ووجودها في هذا المكان..أخذ يلتقطها بيده دون ان تبدي ادنى مقاومة كأنها في حال خدر لذيذ.. وأشعل نارا من حطب جمعناه من الوادي..
.. سألت نفسي ونحن نلتهم بلذة السمكات التي شويناها على الفحم : هل كان ذلك سر صديقي الذي لم يبح به لأصدقائه وهو يصطاد السمك معهم في بحر خلف في المكلا ؟!
لم اسأله حتى لا احرجه، واجابني نيابة عنه السمك الذي اصطدناه بأغرب طريقة رأيتها في حياتي..!
لايمكنني تصور المكلا بدون البحر.. مامن مكان ساحر يمكن أن يسحر المرء مثلما يسحره بحر المكلا..فهو الذي يجعلها عروس بحر العرب.. ولازال بحر حبي فيها غزيرا ولااريده ان ينضب، فذاك مهر عروستي لما تحتويه من فتنة واسرار...
ولايمكنني تذكر المكلا بدون أصدقاء..أنظر إليهم عبر مسافة تمتد آلاف الكيلومترات.. لطالما كنت اقول ان المدن ليست الحجارة والطوب..المدن هي الناس الذين يعطون للمدن والبيوت الحياة والألق والدفء والمشاعر الإنسانية.. فكيف إذا كانوا أصدقاء ؟
قدمت لي المكلا أصدقاء رائعين على مستوى من الثقافة
والجمال والإبداع والذكاء والموهبة.. وانا بطبعي احب هذا النوع من الأصدقاء.. عمر محفوظ باني واحد من هؤلاء.. تعرفت عليه خلال زيارة مدرسية قام بها مع مدرسته إلى بلدتنا الديس الشرقية في بداية ستينيات القرن العشرين. كان يضع نظارة طبية، لكن خلفها كانت تشع عينان ذكيتان، ومن مراسلاتي معه اكتشفت انه يمتلك ذكاءً حادا وموهبة في الكتابة... للأسف فقدت تلك المراسلات..