حلّ مصطلح الجنوب العالمي محل مصطلح العالم الثالث. والولايات المتحدة قد تخسره هذا العالم بسبب عدم فهمها للواقع الجديد حسب الكاتب دانييل رونديه في صحيفة “ناشيونال إنترست”.
في الحقيقة يجب أن ننظر إلى المنافسة بين القوى العظمى بطريقة جديدة. فإلى جانب الصراعات في شرق أسيا وأوكرانيا وإسرائيل، والتنافس في عالم التكنولوجيا والذكاء الاصطناعي والاتصالات والرقائق، هناك التنافس الأهم على “الجنوب العالمي”.
يشمل الجنوب العالمي أفريقيا وجنوب شرق آسيا وأميركا اللاتينية ودول جزر المحيط الهادئ وجنوب آسيا وآسيا الوسطى وبعض دول ما بعد الاتحاد السوفييتي والشرق الأوسط. ويشار إلى هذا المصطلح تاريخيا باسم “العالم الثالث”، أو “العالم النامي”، أو “الدول الجديدة غير المنحازة”. لكن جميع هذه التسميات خلقت جدلا حول العالم ليتحول هذا المصطلح إلى “الجنوب العالمي”.
وخلال الحرب الباردة الأولى، كان العالم النامي جبهة رئيسية، لذلك فليس من المستغرب أن يكون الجنوب العالمي مرة أخرى مسرحا مهما للمنافسة على مدى السنوات الأربعين المقبلة.
تكمن أهمية الجنوب العالمي في أهميته الاستراتيجية وأسواقه الاستهلاكية وإمكانية تحالفه مع القوى العظمى، مما يجعله يتقاسم العبء الأمني معها. وفي حين كانت الولايات المتحدة تركز فقط على الصراعات العسكرية والمنافسة التكنولوجية، كانت الصين تحرز تقدما نشطا في الجنوب العالمي لأكثر من 20 عاما، وكانت روسيا تتمتع بعلاقات تعود إلى ما قبل ذلك بكثير. وكلا القوتين دعمتا شعوب هذه المنطقة بالمشاعر المناهضة للاستعمار.
تنظر الصين إلى الجنوب العالمي على أنه شريك في تحدي النظام العالمي الحالي الذي تقوده الولايات المتحدة. وتضفي الصين طابعا ديمقراطيا على العلاقات الدولية من خلال حماية سيادة هذه البلدان وتجنب الانحياز إلى الإملاءات الخارجية. وهذا مضاد للجهود الأمريكية لاستعادة جاذبية الديمقراطية الليبرالية، التي تبدو في نظر معظم بلدان الجنوب العالمي “حربا باردة جديدة”، وهي فكرة قديمة عفا عليها الزمن.
وتبدو الصين بالنسبة لبلدان الجنوب العالمي كمزود حميد للسلع العامة الدولية للتخفيف من حدة الفقر والأمن الغذائي والرقمنة. وقد انضمت أكثر من 70 دولة إلى مجموعة أصدقاء مبادرة التنمية العالمية، حيث تدعم أكثر من 100 دولة أهدافها، مما يبرز دور الصين كقائدة في مجال التنمية. ويتناقض هذا الالتزام مع الحمائية العالمية المزعومة للولايات المتحدة، التي تُتهم بالفشل في تقديم الدعم الاقتصادي الكافي.
ويبرز دور الصين في المناطق التي تشهد توترات تاريخية مع الغرب من خلال دورها الدبلوماسي بشأن قضايا مثل غزة، حيث تدعو للسلام. ويشكل استثمار الصين في هذه المناطق جزءا من رؤيتها “للتغيرات العظيمة التي لم نشهدها منذ قرن من الزمان”، مؤكدة على الأهمية الاقتصادية والجيوسياسية المتنامية للجنوب العالمي وإمكاناته لإعادة تشكيل المشهد الدولي.
في الواقع أثبتت الصين على أنها ليست مجرد منافس في القوة الصلبة بل في القوة الناعمة. ويمكنها أن تملأ أي فراغات تتركها الولايات المتحدة. فعلى الصعيد الاقتصادي تغير المشهد كثيرا، حيث ارتفعت قيمة الاقتصاد الصيني من 138 مليار دولار عام 1973 إلى 18 تريليون دولار في عام 2023. ورغم أن اقتصاد الولايات المتحدة أكبر حاليا إلا أن معدل نمو الناتج المحلي الإجمالي للصين في عام 2023 والبالغ 5.2% سنويا يفوق معدل النمو للولايات المتحدة البالغ 2.5% في نفس العام. وحيث تترك الولايات المتحدة فراغا ماليا يمكن للصين أن تملأه.
إن التحدي الذي تواجهه الولايات المتحدة يكمن في تقديم بديل مقنع للنفوذ الصيني الشامل. فعلى مدى العقد الماضي، سعت الولايات المتحدة إلى تثبيط عزيمة بلدان الجنوب العالمي عن الانخراط في المبادرات الصينية مثل حلول الاتصالات التي تقدمها هواوي، أو لقاحات سينوفاك ضد كوفيد-19، أو مبادرة الحزام والطريق دون تقديم بديل قابل للتطبيق. وقد تركت هذه “الاستراتيجية” العديد من البلدان بلا خيار سوى اللجوء إلى الصين.
وتصوروا مثلا إذا أدارت الشركات الصينية موانئ هذه البلدان، وإذا درست هذه البلدان نخبها في بكين بدلا من بوسطن، وإذا هيمنت هواوي أو غيرها من شركات التكنولوجيا الصينية على أنظمة الاتصالات في تلك الدول، فإن ذلك سيؤثر سلبا على الأمن القومي الأمريكي. وقد تصوت الدول النامية مع الصين وضد الولايات المتحدة في قضايا دولية حيوية مثل الصراعات في إسرائيل وأوكرانيا.
وهناك أمر بالغ الأهمية وهو أن العالم النامي اليوم ليس نفس العالم الذي تصوره أجدادنا. فحكومات هذه البلدان اليوم لديها خيارات اقتصادية وتجارية أكثر بكثير مما كانت عليه الحال قبل 50 عاما. وهذه البلدان لا تريد أن تكون مجرد بيادق في لعبة شخص آخر، كما أنها باتت ترفض الهيمنة.
ومنذ مطلع القرن العشرين، شهدت بلدان العالم النامي انخفاضا كبيرا في معدلات الفقر وتقدما في المقاييس الاجتماعية والاقتصادية. والآن أصبحت معدلات انتشار الهواتف المحمولة في أغلب هذه البلدان تقترب من معدلات انتشارها في الولايات المتحدة. وأصبحت هذه المجتمعات أكثر حرية مقارنة بالماضي، وتتمتع بمجتمعات مدنية أكثر نشاطا.
إن ما تحتاجه هذه البلدان هو تطوير موارد الطاقة والمعادن والبنية الأساسية والموانئ، وفي كثير من الأحيان الأمن الصارم. وعلى مدى 35 عاما حصلت هذه البلدان على حاجاتها من الصين وروسيا. ويتعين على الولايات المتحدة والغرب أن يتأكدا من أننا نقدم أيضا ما تريده هذه الدول بالفعل.
ولكن هذا لا يغير من حقيقة أن الولايات المتحدة لابد وأن تعمل على تحديث سياساتها لكي تتجاوز استراتيجيات الحرب الباردة. ولابد وأن تتكيف مع الحقائق الجديدة من أجل المشاركة في المنافسة بين القوى العظمى على الجنوب العالمي، وهذا يتطلب الانخراط مع الجنوب العالمي في مجالات التجارة والبنية الأساسية والاتصال الرقمي والتعليم والتنمية الاقتصادية.
إن هيمنة الصين في مجال الاتصالات السلكية واللاسلكية تشكل تهديدا استراتيجيا للولايات المتحدة. لذلك يجب على الولايات المتحدة مواجهة هذا من خلال زيادة الاستثمار في البنية التحتية الرقمية في الجنوب العالمي، والترويج لشركات الاتصالات الأمريكية، وتقديم بدائل تنافسية لتكنولوجيا هواوي.
لقد طورت الصين شبكة عالمية من الموانئ ذات الأهمية الاستراتيجية في إطار “طريق الحرير البحري” وتمتلك موانئ ومحطات في ما يقرب من 100 موقع في أكثر من خمسين دولة؛ 23 منها في أفريقيا وحدها. وهذا يجعل الصين مسيطرة على الموانئ في قلب سلاسل التوريد العالمية.
لقد تفوقت الصين على الولايات المتحدة كأكبر شريك تجاري لأفريقيا منذ عام 2009. واليوم، يذهب خمس إجمالي صادرات المنطقة من السلع إلى الصين، والتي تتكون بشكل أساسي من المعادن الخام والمنتجات المعدنية والوقود. ويبلغ حجم التجارة الأمريكية الحالية مع الدول الأفريقية خمس حجم التجارة بين أفريقيا والصين فقط. وحتى الآن، وقعت 52 دولة أفريقية من أصل 54 دولة اتفاقية أو تفاهم مع مبادرة الحزام والطريق.
أما على الصعيد الأكاديمي ووفقا لبيانات عام 2020 من تقرير مراقبة التعليم العالمي لليونسكو، تعد الصين أكبر مزود للمنح الدراسية في جميع أنحاء العالم. وبالنسبة للتمويل العام، لا تصل الولايات المتحدة حتى إلى المراكز العشرة الأولى لاعتبارات اقتصادية. ولكن يجب استقطاب المزيد من الطلاب الأجانب للولايات المتحدة لزرع الديمقراطية الليبرالية في عقولهم.
إن تجاهل الجنوب العالمي يشكل خطرا على الأمن القومي الأمريكي. وتغير موازين النفوذ في هذه الأجزاء من العالم يشكل تهديدا استراتيجيا من الممكن أن يعيد تشكيل ديناميكيات القوة العالمية بشكل كبير.