ماهو الفرق بين دماغ (مخ) البشر العاديين ودماغ العباقرة ؟
وهل لدى الإنسان دماغ واحد أم أدمغة ؟ وما الذكاء وكيف نميزه في عصرنا الحالي، وهل الطريقة التي نعتمدها لتحديد مستوى الذكاء تعتبر مقياسا جيدا؟
وهل يشكل الذكاء الاصطناعي أو الآلي تهديدا للبشرية؟
أسئلة كثيرة تحمل رغم بساطتها إجابات مثيرة.
فنحن عادة ما نصف الشخص الذكي بأنه الشخص القادر على الإجابة بسرعة عن أي سؤال، لكن يبدو أن هذا ليس هو جوهر الذكاء. فما هو جوهره؟
يعمل ميتشيو كاكيو أستاذا للفيزياء النظرية (التي تعتمد على الرياضيات في دراسة وفهم الظواهر الطبيعية) في جامعة نيويورك، وهو مؤلف كتاب «التفوق الكمي» الذي يبحث في العصر ما بعد الرقمي (عصر فيزاء الكم أو الكوانتم) أي عصر الحواسيب العملاقة التي تختلف في جوهرها عن الحاسبات الموجودة في عالمنا، إذ تستطيع تلك الحواسيب إجراء ملايين العمليات في ثانية واحدة وتقدم حلولا جذرية لبعض أكبر التحديات التي تواجه البشرية، بدءًا من علاج الأمراض واستئصالها حتى توفير الطعام لسكان الأرض الذين يتزايدون باستمرار.
ويوضح كاكيو أن الذكاء الاصطناعي يشكل تهديدًا للبشرية... لكن لا يزال هناك بحسب رأيه وقت للسيطرة عليه.
أجرت بي بي سي لقاء مع كاكيو في مقر إقامته في نيويورك ليشرح توقعاته للمستقبل كما تناولها في كتابه «التفوق الكمي».
الإنسان وأجزاء مخه الثلاثة
يقول العالم كاكيو: عند تحليل الدماغ البشري، نجد على الأقل ثلاثة مكونات رئيسية:
الجزء الخلفي من الدماغ أو جذع الدماغ: وهو المنطقة المسؤولة عن إدراك الأبعاد الثلاثية للأمكنة التي نوجد بها وكيفية التعامل معها.
مركز الدماغ أو المخيخ: وقد تطور هذا مع تطور الإنسان وهو الجزء المسؤول عن الذكاء الاجتماعي.
الجزء الأمامي من الدماغ: وهو أهم منطقة إذ تكمن فيه بحسب الباحث ميتشيو ما وصفه بآلة الزمن، إذ نستطيع بواسطته أن نرى المستقبل بدون توقف. وتتم عمليات قراءة المستقبل عن طريق الاستفادة من تجارب الماضي وتحليلها.
لكن هل نتساوى جميعا في القدرة على التنبؤ بالمستقبل؟ وما الذي يميز الدماغ البشري العادي عن الدماغ العبقري؟
العقل البشري العادي هو عقل انتهازي، أي قناص للفرص، ينتظر فقط الفرصة المتاحة ويقتنصها دون جهد يذكر.
أما المفكرون العظماء فيستخدمون “آلة الزمن” في دماغهم - أي الجزء الأمامي من المخ - ويحاولون استشراف المستقبل. وهذا هو لب الذكاء.
ويتمثل ذلك في أحلام اليقظة، التي تحاكي باستمرار مستقبلا غير مرئي أو موجود. إذ يمكنك أن تفكر في المستقبل، بعد مئة عام مثلا. وهذا لا يفعله الدماغ العادي. فالدماغ المتفوق، دماغ الأشخاص الأذكياء، هو دماغ آلة الزمن.
فالعالم الذي اكتشف الكهرباء، أو الهاتف، أو الآلة البخارية رأى ما لم يره غيره.
ما الاكتشاف العظيم الذي سنحققه في الـ100 عام المقبلة؟
تنقل العالم من عصر إلى عصر، من العصر الحجري البدائي إلى العصر الزراعي ثم عصر الميكنة حينما بدأ الإنسان يعتمد كثيرا على الآلة، وانتقل منها إلى ثورة المواصلات كالسيارات والطائرات قبل الانتقال في بداية ثمانينيات القرن الماضي إلى عصر المعلومات الذي استمر حتى عام 2000، وصولا إلى العصر الرقمي أو عصر الإنترنت الذي عشناه منذ بداية الألفية، واستمر إلى عام 2015 حتى ظهر العصر الكمي أو عصر الحواسيب العملاقة الذي نعيش بدايته الآن .. والمفيد هنا أن نشير إلى أن كل عصر يحل لا يلغي ما قبله من عصور بل يعززها ويبني عليها.
العصر ما بعد الرقمي
بنت الولايات المتحدة الأمريكية حاسوب “فرونتير” الخارق بتكلفة 600 مليون دولار وهو يحتوي على ملايين المكونات. وعمل علي قاعدة بياناته أكثر من 100 متخصص ويمكن من خلاله إجراء مليون ترليون عملية في الثانية، وبني على مساحة 680 متراً مربعاً ... ويستطيع كل شخص على كوكب الأرض إجراء 60 عملية حسابية عليه في وقت واحد دون توقف لأربع سنوات. وحاسوب فرونتير هو أقوى بـ147 مليار مرة من أول حاسوب عملاق عرفه العالم.
والمثير هنا أن القفزة الكبيرة التالية في العلم هي استخدام تقنية الكم لفهم الأفكار الكبيرة والصغيرة. وتعتمد هذه التقنية على حساب جزيئات الذرة وما هو أقل من ذلك في تحليل أدق المعلومات، في محاولة للإجابة على التساؤلات وتقديم الحلول اللازمة للأزمات والمشاكل.
كنا نستخدم لدراسة الدماغ البشري ومعرفة أسراره وفك لغزه، في العصر الرقمي، اللغة الرقمية التي تستخدم في الحاسوب الحالي، وهي لغة خام وبطيئة وتعتمد على الصفر والواحد.
بينما كنا نستخدم في دراسة الكون لغة الكون التي تعتمد على الذرة وجزيئاتها والإلكترون والنيوترون، والجسيمات الضوئية.
اليوم يمكننا مع ثورة الكوانتم أن نستخدم أجهزة الكمبيوتر الكمية أو العملاقة لتحليل بيانات الدماغ مثلا. وهذا سيحقق نتائج مذهلة.
اليوم يسعى العلماء إلى استخدام تقنية الكوانتم من أجل فهم أوسع للكون والإنسان. وقد يكون هذا أكثر وضوحا عندما نرى كيف تعمل هذه التقنية في علاج الأمراض مثلا.
فالعلاج بالأدوية اليوم يعتمد على نظام التجربة والخطأ: ما هو تأثير هذا الدواء، وهل نزيد الجرعة أم ننقصها، لنجرب دواء آخر وهكذا...
ومعظم الأدوية الناجحة اكتشفت عن طريق الصدفة. لكن مع استخدام تقنية الكوانتم، يمكنك إجراء تجارب افتراضية لا نهائية ويمكن تصور النتائج قبل استخدام الدواء خلال دقائق وربما ثوان.
ويمكنك بعد ذلك البدء في اكتشاف أدوية جديدة. حينها لن يكون هناك مثلا مرض السرطان، إذ يمكننا البدء في العلاج قبل ظهور الورم. وسنتمكن، على سبيل المثال، من قراءة الحمض النووي الخاص بالشخص عند الذهاب إلى الحمام، والتعرف على ما قد يتعرض له في المستقبل وإن كان هناك احتمال لإصابته، ويمكن اكتشاف أي ملمح لورم محتمل قبل ظهوره بعشر سنوات.
أي أن كلمة ورم بمعنى آخر سوف تختفي من لغتنا.
هل انتهى عصر الإنترنت وبدأ عصر «الدماغ نت»؟
يقول العالم كاكيو إننا سنتواصل في المستقبل من خلال العقل، والدماغ ... فإنترنت المستقبل لن يكون رقمياً لأن هذه التكنولوجيا خام وبطيئة للغاية.
سيكون إنترنت المستقبل كميًا، وسوف يندمج مع الدماغ. وسوف يطلق عليه اسم «برين نت». ويمكن لأفكارك وقتها أن تجوب العالم وتتفاعل مع أفكار أخرى دون أن تتحرك من مكانك.
ولذا فإننا لن نستخدم بالضرورة الأسلاك، وما علينا إلا أن نطلق العنان للتفكير ببساطة، ثم يقوم «برين نت» بالباقي.
ثلاثة مخاطر تحملها التقنيات الجديدة للبشر
وهذه التهديدات هي التهديد بالحرب النووية والتهديد بالأسلحة البيولوجية والاحتباس الحراري. وعلينا أن نضيف إلى ذلك تهديدا رابعا محتملا على الجنس البشري، وهو الذكاء الاصطناعي الذي يحمل في حد ذاته نوعين من التهديد.
التهديد الأول فوري وهو الطائرات المسيرة، آلة القتل الأوتوماتيكية، التي تلاحق الإنسان لقتله بشكل عشوائي. فلو خرجت هذه الآلة عن السيطرة فقد تؤدي إلى الإبادة.
التهديد الثاني وهو الأكبر: ويتمثل في المرحلة التي يقترب فيها الذكاء الاصطناعي من ذكاء الإنسان. فمن يدري! فقد سكون لدينا في غضون 100 عام روبوتات لا يمكن تمييزها تقريبًا عن البشر.
في تلك المرحلة، علينا أن نتأكد من أنه لن يكون لها رأي خاص بها، لأن هذا قد يؤدي إلى انقلابها علينا.
وينصح العالم كاكيو بوضع شريحة في دماغها للسيطرة عليها إذا بدأت تظهر مثلا أفكارا تشجع على القتل.
لكن هل يمكن للحواسيب العملاقة أو تقنية الكوانتم أن تحدد لنا المستقبل؟
يقول البعض إن التقدم المتوقع سيقضي على الأمراض المرتبطة بتقدم العمر، وقد لا نموت بسبب الشيخوخة بفضل تلك التقنية.
لكن هناك تحديات لن يحلها العصر ما بعد الرقمي، فأجهزة الكمبيوتر الكمية أو العملاقة قد تساعد في حل أزمة الاحتباس الحراري، وفي تزويدنا بمحطات طاقة لا تنتج نفايات نووية. وستساعد كما نأمل في علاج السرطان، ومرض الزهايمر، ومرض باركنسون.
لكن من يحل المشاكل النفسية ومن يحل لغز الشخصية البشرية المعقدة التي يتفرد بها كل شخص منا على حدة؟
هذه سمات لا يمكن حلها بواسطة أجهزة الكمبيوتر مهما كانت عملاقة فهي لا تستطيع حل لغز نقاط الضعف البشرية.
فكيف يمكن أن يتوحد البشر مثلا في قبول العيش بسلام بدلاً من الحروب المستمرة؟.
كيف يمكن أن نحل مشكلة الغيرة والخوف؟
لقد وفر لنا التطور القدرة على القتال، وأعطانا القدرة على حماية ما نملك. ومنحنا التطور العديد من الخصائص، بعضها لصالح البشر، وبعضها الآخر ليس كذلك.
ويساعد التطور ببساطة البشر للبقاء على قيد الحياة.
لكن البقاء على قيد الحياة قد يعني أحيانا قتل إخوانك الآخرين من البشر. وهذا يعني أن هناك الكثير من العيوب داخل الإنسان سيكون من الصعب على التقنيات أن تعالجها.