توقفت مجلّة “فورين أفيرز” الأميركية، عند التصعيد العسكري الخطير في الشرق الأوسط، المتمثل في عمليات الاغتيال التي نفذتها “إسرائيل” في طهران وضاحية بيروت الجنوبية، في امتداد لخروج الحرب مع حماس في قطاع غزة عن نطاقها الجغرافي المحلي.
ورأت المجلّة أنّ التقارير التي تبثها وسائل الإعلام الغربية عن الاغتيالات، وتسلط الضوء على قدرات “إسرائيل” على “شن هجمات عسكرية وتكنولوجية متطورة في عمق أراضي العدو”، وتعطي الانطباع بأن “الجيش الإسرائيلي أصبح مرة أخرى لا يقهر”، تسيء فهم الحقائق الصعبة التي تواجهها “إسرائيل”.
واعتبرت المجلّة، في تقريرٍ مطوّل، أن “إسرائيل” لا تستعين بحسابات استراتيجية طويلة الأجل في اتخاذ قراراتها، وأنها بعد أن وجّه هجوم 7 تشرين الأول/أكتوبر ضربة مدمرة لموقفها الردعي، تخوض محاولة محمومة لاستعادة الردع، ومع استعدادها لتحمل مخاطر أعظم وتكاليف أعلى.
قبل هجوم السابع من أكتوبر، كانت ثقة “إسرائيل” قد بلغت ذروتها، بحسب المجلة، التي تحدثت عن اعتقاد “إسرائيل” أن الدول العربية سوف تقبلها حتى لو لم تحل صراعها مع الفلسطينيين، وأنها قادرة على ضرب إيران وحلفائها من دون عواقب ومن دون تعريض الدعم الذي تتمتع به من الولايات المتحدة للخطر.
وبين ليلة وضحاها، تحولت هذه الثقة إلى شعور عميق بالضعف، وتغيرت نفسية المستوطنين، وانقلبت العديد من المعتقدات الإسرائيلية بشأن قوة “إسرائيل”.
فقد حطّم هجوم حماس الافتراضات الأساسية لدى الإسرائيليين، وهي أنّ تفوقهم العسكري والتكنولوجي قادر على ردع خصومهم، وأنهم قادرون على العيش بأمان خلف الجدران والحدود المحصّنة، وعلى الازدهار اقتصادياً من دون تحقيق تقدم كبير نحو السلام مع الفلسطينيين.
والآن، يدرك كثيرون في المؤسسة الأمنية أن “إسرائيل ليست قوية إلى هذا الحد”، كما يقرّ أحد مسؤولي “الأمن القومي” السابقين في حديث للمجلة.
وأكدت المجلّة أنّ العديد من الإسرائيليين الذين يدرسون أو يعملون في مجال “الأمن القومي” غاضبون من حكومتهم بسبب إخفاقاتها الأمنية الهائلة في السابع من أكتوبر وما بعده، كما أنهم غاضبون لأن القادة الذين فشلوا في الحفاظ على أمن “إسرائيل” لم يخضعوا للمساءلة، مشيرةً إلى أنّ انعدام الثقة في الحكومة منتشر على نطاق واسع.
ورأت المجلّة أنّ هذا القلق والغضب يعكسان تحديات محلية ملموسة لـ”الأمن القومي” الإسرائيلي، ففي ظل إنهاك القوات الإسرائيلية على جبهات متعددة، من غزة إلى الضفة الغربية إلى شمال “إسرائيل” وما بعده.
وعادت إلى ما خلفته أزمة إصلاح القضاء في النصف الأول من عام 2023 من انقسامات خطيرة بين القادة المدنيين وكبار القادة العسكريين، وإلى تهديد آلاف جنود الاحتياط بعدم الالتحاق رداً على الضغط الذي شنه ائتلاف نتنياهو.
وتعرضت المجلّة أيضاً للتهديدات غير المسبوقة التي يواجهها “الجيش” من المتطرفين المحليين، بما في ذلك من داخل صفوفه وصفوف الحكومة.
ولم تنسَ الإشارة إلى فقدان “إسرائيل” الدعم الدولي بسبب العدد الهائل من الضحايا والدمار في غزة، ومواجهتها في المنتديات القانونية في لاهاي، تدقيقاً متزايداً بشأن سلوكها في الحرب واحتلالها المستمر للضفة الغربية.
وأشارت إلى أن “إسرائيل” أخطأت في حساباتها عندما استهدفت أفراداً من حرس الثورة الإيراني في موقع دبلوماسي في دمشق، ولم تكن تتوقع مثل هذا الرد غير المسبوق والضخم والمباشر الذي تضمن مئات الطائرات المسيّرة والصواريخ التي أطلقت من الأراضي الإيرانية باتجاهها.
ولفتت إلى أنّ الدفاع المتطور والمنسق الذي قادته الولايات المتحدة، لم يمنع الهجوم الإيراني في نهاية المطاف، بل عمل فقط على الحدّ من الأضرار، وقد أضرّ أيضاً بصورة الإسرائيليين الذين يعتمدون على أنفسهم.
وطغى الشعور بالانزعاج من أن إيران شنت مثل هذا الهجوم الخطير في المقام الأول، بمعزل عن مدى نجاحه، متحدثةً عن القلق من أن الهجوم التالي من هذا القبيل لن يكون من السهل صده.
ويشعر العديد من المحللين الأمنيين الإسرائيليين بالقلق إزاء تآكل موقف إسرائيل الإقليمي، ويخشون أن تكتسب إيران وحلفاؤها المزيد من القوة، وأن إيران قد تكتسب المزيد من الحوافز لتسليح قدراتها النووية إذا اعتقدت طهران أنها غير قادرة بالقدر الكافي على ردع “إسرائيل” بالوسائل التقليدية.
وهم يعتقدون أن “إسرائيل” تتدهور إلى مرتبة ثانوية مع محاولة إيران الوصول إلى “دوري الأبطال”، كما قال أحد المسؤولين السابقين في “الأمن القومي”، إذ قال مسؤول دفاعي سابق للمجلة إن “إسرائيل” تفقد الردع “إلى حد لم نشهده من قبل”. ومع ذلك، فإن القيادة السياسية تواصل إخبار الجمهور بأن “إسرائيل” تنتصر.
ورأت المجلّة أنّ الهجوم الإيراني في أبريل أدى إلى تعميق تصور الإسرائيليين للتغيير الجذري في “روح” الشرق الأوسط.
ويعتقد الإسرائيليون أن أعداء “إسرائيل” قد يجدون تدميرها هدفاً واقعياً في الوقت الحاضر، ويعبّر المحللون الإسرائيليون الأكثر رصانةً عن شعور بالتهديد الوجودي يختلف عن كل ما شعروا به منذ العام 1948.
ونقلت المجلّة عن أحد المسؤولين الحكوميين السابقين قوله إن “الأرض تتغير تحت أقدامنا”، معلقةً أنّ هذا صحيح من بعض النواحي، ومن ناحية ثانية هو “صورة معاكسة لصورة الذات المفرطة الثقة التي كان الإسرائيليون يحملونها قبل السابع من أكتوبر”.
ورجحت المجلّة أن تحافظ “إسرائيل” على موقف عدواني في المنطقة، ولو أدى ذلك إلى زيادة خطر اندلاع حرب إقليمية أوسع نطاقاً، نظراً للتصور والواقع المتمثل في تزايد الضعف، وثقة الإسرائيليين في أنهم سيحتفظون بدعم الولايات المتحدة، وبالتالي فإن محاولة “إسرائيل” تجاوز حدودها في تحركاتها الإقليمية لا تأتي لأنها تشعر بالقوة بل لأنها تشعر بالضعف.
ولكن “إسرائيل” تغامر من دون أي استراتيجية سياسية، ومن غير المرجح أن يؤدي وضع الثقة في القوة العسكرية الغاشمة لاستعادة الردع ومضاعفة المواجهة مع إيران وحلفائها، من دون خطة سياسية أو استراتيجية، إلى تغيير الديناميكيات الإقليمية الناشئة التي تقلق المخططين العسكريين الإسرائيليين إلى حد كبير.
واستبعدت المجلّة أيضاً، أن يردع ذلك أعضاء “محور المقاومة”، الذين توقعت أن يضاعفوا جهودهم بطرق غير متوقعة ويفاجئوا “إسرائيل” مرة أخرى.
وأكدت أن إنهاء الحرب في غزة من شأنه أن يساعد بالتأكيد في الحدّ من التهديدات الهائلة التي تواجهها “إسرائيل” الآن، مستبعدةً أن تؤدي الجولة الحالية من التصعيد إلى اتفاق وقف إطلاق النار أو إطلاق سراح الرهائن الإسرائيليين المتبقين.
وحتى إنهاء الصراع في غزة لن يحل في نهاية المطاف المعضلة الاستراتيجية الأكبر التي تواجهها “إسرائيل”، والتهديد الوجودي الأكثر جوهرية بالنسبة إليها، وهو الصراع مع الفلسطينيين، ولن يؤثر أيضاً إبرام صفقات التطبيع مع الدول العربية في تهميش الجماعات المتحالفة مع إيران تقليل العداء تجاه “إسرائيل”.
وختمت المجلّة بالتأكيد أن العمليات العسكرية التكتيكية “قد تعطي وهم النصر، ولكنها لا يمكن أن تجلب الأمن الحقيقي”.