ليس شرطاً أن نمتلك المال لنكون سعداء، أو النفوذ لنكون محبوبين، أو التكنولوجيا لنكون أكثر دقة في إنجاز أعمالنا، فالمال والنفوذ والتقنية مثل السيارة والسكين وجهاز الهاتف الذكي، مجرد وسائل أو أدوات لا أكثر، أشياء نصنعها لنسخرها، أشياء مصنوعة، مبتكرة أو مخترعة، كلها تقوم على فكرة عامة، أساسها الاستخدام لما فيه مصلحة المستخدم، وهي مطلقة الاحتمالات بمنطق التطور، بمعنى أنها لا تستخدم لغاية أو وظيفة واحدة فقط كما كان الأمر سابقا.
إن الهاتف الذكي لم يعد وسيلة للاتصال فقط، هذه فكرة قديمة تجاوزها الزمن وقانون التطور، اليوم يمكن للهاتف أن يكون وسيلة تواصل، اتصال، إنجاز الأعمال والمعاملات، حجز الفنادق، وتذاكر السفر، واجهة تجارية للبيع وعرض البضائع، شراء العقارات والأسهم حول العالم، ملاحقة الأخبار ووكالات الأنباء، دفع الفواتير، وترويج الأفكار الجيدة والمدمرة معاً، كما يمكن للإنسان أن يقرأ كتاباً رائعاً بواسطته، ويمكنه أيضاً أن يفجر سيارة مفخخة بواسطته، صار الهاتف الذكي نافذة للقراءة، للتثقيف، لتعلم اللغات والطهي والخياطة والعناية بالأشجار، واكتساب أصدقاء جدد في كل العالم.
نحن نتحدث عن الهاتف فقط، ومع ذلك فهناك الكثير مما لا يمكن الإحاطة به في هذه المساحة الصغيرة.
هكذا هي كل «أشياء» حضارتنا الراهنة، تحمل وجهين دائماً، وتحتمل عشرات الاستعمالات، فهي خيرٌ بحت، وهي شرٌ مطلق في الوقت نفسه، ونحن الذين نقرر الوجهة، وطريقة التعاطي، لكنْ من دون تحميل الوسيلة نتيجة أخطائنا واختياراتنا غير العقلانية، نحن نريد أن نرقى بحياتنا، نريد أن نطورها للأفضل، نريد أن نحاكي الأمم المتطورة إيجابياً، أن نكون مثلهم، فنظن أننا لو اشترينا «أشياء الحضارة» و«منتجاتها»، مما صنعته تلك الأمم المتطورة من سيارات، وهواتف، وثياب تحاكي آخر خطوط الموضة، ومنازل فارهة، وأثاث جميل، وساعات برَّاقة، ومجوهرات ثمينة، وأحذية راقية، وسيارات فخمة وأجهزة كهربائية ذات جودة عالية، فإننا سنحظى بذلك التطور والتحضر الذي لطالما حلمنا أن نحصل عليه، والذي لطالما جلدنا أنفسنا مرات ومرات عدة لأننا متخلفين، لم نتمكَّـن من تحقيقه، لكن ما يحدث هو أننا لا نتطور! أو لم نتطور مثلهم، أو كما يُـفترض أن يكون التطور أو التحضُّـر.!
كنت أقف في طابور الدفع في أحد الأسواق التجارية الكبرى بمحافظة عدن، وقفت أمامي عند جهاز الدفع مباشرة امرأة، بدون أن تعتذر لي عن تقدمها قبلي، ومن هيئتها يبدو عليها الاهتمام « بالبرستيج » كان من المفترض أن تدفعن ثمن ما اختارته وتخرج، لكنها بدلت البضاعة، وأضافت قطعاً جديدة «أكثر من مرة» في كل مرة كانت تذهب إلى الداخل لتجلب شيئاً جديداً، بينما الجميع يتأفف ويتذمر، بالطبع ذلك سلوك لا يتناسب مع الحقائب والملابس التي اشترتها تلك المرأة، والتي تجاوز ثمنها الـ 100000 ريال، التحضُّـر سلوك لا يتجزأ، وأول التحضُّـر احترام حقوق الآخرين، كانت المرأة غير مبالية بذلك الطابور الواقف، وكأنه لا أحد في المكان!
في المطعم الرفيع المستوى، كنت أشرب عصيري المُـفضَّـل عند الصباح، وأكتب مقالي بهدوء، لم يكن هناك أمر مزعج أبداً، سوى ذلك الشاب الذي كان يقلب مفاتيح سيارته البورش بطريقة استعراضية، ويتحدَّث في هاتفه النقال مع صديقه بشكل مستفز، جعل كل من في المطعم يلتفت تجاهه، كان يضحك وكأنه لا أحد غيره في المكان، ويتحدَّث كمن يريد من الجميع أن يسمع المحادثة، وكان الحديث تافهاً وركيكاً وبلا معنى، وهو حر في حديثه وموضوعه، لكنه حتماً ليس حراً في استفزازه للناس، وفي الحديث بذلك الصوت المنكر، لأن أنكر الأصوات صوت الحمير، كما قال الله في القرآن الكريم.
كيف نرتدي أغلى الثياب ( الماركة )، ونقتني أفخر الهواتف النقالة الذكية، ونستقل أفخم السيارات، ثم لا نجيد السلوك في مطعم عام؟ السبب كما قال المفكِّـر الجزائري مالك بن نبي في كتابه «شروط النهضة» أن الغرب يبيعنا أشياء حضارته، لكنه لا يبيعنا روحها، يبيعنا السيارة، ولا يبيعنا صفة الإتقان، ويُـصدِّر لنا أفخر الثياب لكنه لا يعطينا حُـسْـن التصرف واللباقة والرقي، وهو يبيعنا الكعب العالي، وحقائب شانيل، وقمصان هيرمس، لكنه حتماً لا يرفق معها آداب التعامل، والأخلاق الحسنة، واللطافة، واحترام المواعيد، وكذا احترام الآخرين.
|
علاء بدر
تُـحسب نفسك مــــــن؟
أخبار متعلقة