الصورة النمطية للمثقف في عالمنا العربي هي: حديث كثير بلا معنى محدد، وتوتر دائم غير مبرر، وغرور وترفع، وهتافات وثرثرات عن مؤامرات وحركات معلومات ومجهولات.. وطبعا زي إفرنجي، لكن بنكهة لينينية، ولا تغفل القهوة التركية وأغاني مارسيل خليفة والشيخ إمام.
صورة نمطية معتادة في الروايات والأفلام للمثقف العربي، لكنها لا تعبر عن كامل الصورة. ثمة مثقفون يعبرون عن كل تيار وتوجه، فكما لليسار لغتهم وأدبهم ونموذجهم التفسيري للعالم، كذلك للتيارات الأخرى، من إسلام سياسي إلى يمين سياسي علماني. حديث متشعب، دعاني له كتاب ممتع قرأته أخيرا بعنوان: «قبل سقوط الشاه.. بقليل». مؤلفه أندرو سكوت كوبر. ترجمه وحققه وزوده بوثائق، الدكتور حمد العيسى. ونشرته دار «مدارك».
الكتاب تحدث عن الصراع النفطي السياسي بين إيران والسعودية، في مرحلة كيسنجر وفورد، وإيران كانت بقيادة الشاهنشاه محمد بهلوي، الذي وصفته المصادر الأميركية حينها بالقومي المتعصب. الكتاب ارتكز على استعراض وثائق الجنرال ورجل الأمن القومي الأميركي برنت سكوكرفت.
كانت هناك معضلة تعترض أميركا في كيفية تخفيض سعر برميل البترول، لكن «حليفهم» الشاه، الذي كان موضع غرام كيسنجر، خيّب أمل الأميركان وأصر على رفع سعر البترول، لكن السعودية، ومن خلال مؤتمر «أوبك» في الدوحة، دشنت زعامتها لـ«أوبك» من خلال رفع الإنتاج السعودي، وخفض سعر البترول رغم أنف الشاه، مراعية مصالحها العليا في المقام الأول، وكيف أن هذا الاتفاق كان سببا مباشرا لتدهور دولة الشاه، الذي كان يتحدث عن غزو حقول النفط السعودية مع كيسنجر، كما كشف الكتاب.
في الكتاب مقطع لافت من محضر حديث بين الشاه وكيسنجر والرئيس فورد، وغيرهم، في صباح 15 مايو (أيار) 1975 بالبيت الأبيض. تعلق بسخرية الشاه و«الدكتور» كيسنجر من المثقفين، اليساريين طبعا، خاصة بأميركا. مما جاء فيه:
الشاه: المثقفون سيدمرون العالم من دون أن يعرفوا كيف يصنعون بديلا أفضل، ليس لديهم بديل، سيصبحون عمال زبالة يكنسون الشوارع في أي نظام شيوعي.
كيسنجر: الغرب يمكنه شراء ذمم المثقفين بالمال. رواتبهم ضعيفة، ويرغبون أن يصبحوا من الطبقة الوسطى العليا. ولكنهم حاليا يبغضون النظام الرأسمالي بدلا من تقديم الدعم له.
الشاه: هذا صحيح، سيكون من السهل وضع بروفسور في مجلس إدارة.
كيسنجر: يجب الوصول للبروفسورات لأنهم هم الذين يكتبون، ويضعون السم. الإجلاء القسري لعاصمة كمبوديا بنوم بنه، يسمونه تمرد الفلاحين، على الرغم من كونه إجباريا ومِن فِعل «الخمير الحمر»، أي الحزب الشيوعي الكمبودي، ولو كنا مَن فعل ذلك لما انتهى الكلام.
نلاحظ حنق كيسنجر، وهو أكاديمي مرموق من «هارفارد»، قبل كونه رجل سياسة، من تزييف مثقفي اليسار الأميركي للواقع وفق ميولهم العقائدية. وهي تهمة يردها اليسار الأميركي، من خلال مهاجمة تزييف الوعي المنهجي الذي يمارسه الساسة الأميركان، خاصة الحزب الجمهوري، من خلال الإعلام، وكلنا يتذكر هجمات البروفسور تشومسكي الشهيرة بهذا الصدد.
ما يراد قوله، هو أن لكل تيار رؤيته وتفسيره وقاموسه للأشياء، من أقصى اليمين لأقصى اليسار، ويراد القول أيضا، إن امتزاج كلمة المثقف باليساري ومن يدور بفلكه، حقيقة تاريخية لا مفر منها، رغم أن في خصوم اليسار والمتياسرين، شوامخ في العلم والأدب والفن.. لكن هكذا جرى الحال.
كيسنجر الساخر من المثقفين
أخبار متعلقة