كان تحقيق الوحدة اليمنية أهم إنجاز تاريخي يمني منذ قرون.. ويتساءل المرء هل سيحتفظ التاريخ لصناع ذلك الإنجاز بشيء من التقدير على الرغم مما حصل من أخطاء جسيمة بعد ذلك جعلت الشعب والبلد يعاني كثيرا وبصفة مستمرة ومتفاقمة، منذ أكثر من عقدين من الزمن.. بالتأكيد سيتحدث التاريخ عن كل شيء وسيشير إلى الرجال والأدوار والمواقف وقد يبحث في النوايا ويفند الدعاوى. ويقينا فإن التاريخ لن يغفل أو يغفر الاخطاء الجسيمة التي ارتكبت أثناء وبعد تحقيق الوحدة، ومن تلك الأخطاء، التسرع والارتجال ومحاولة الانفصال، وحرب 1994، والفساد الكبير الذي ساد بعد تلك الحرب، التي كان يمكن تحاشيها لو سلم قادة الوحدة، من الأنانية والتطرف، والحسابات الخاطئة.. ويلاحظ اليوم سيطرة ما يشبه تلك الظواهر والسمات على تصرفات كثيرين ومنهم بعض قادة الحراك وانسحاب أشخاص منهم من مؤتمر الحوار، تحت ذرائع ومبررات ليست معقولة ولا مقبولة.. ويبدون كمن يكرر أخطاء الماضي أو كمن يجري وراء سراب وأوهام.!
لم يكن نظام الرئيس صالح وحده المسؤول عن حرب 1994، كما يشاع اليوم ، لكن طيش الطرف الآخر، وتطرفه وتناقضاته وقصر نظره وخطأ تقديراته ، كانت سببا رئيسيا آخر لتلك الحرب التي نتج عنها إخراج شركاء الوحدة من معادلة القوة والتأثير، وتمخض عن ذلك تعقيدات ومعضلات لا حصر لها.. ولم يكن السفير الأمريكي مجافيا للحقيقة، عندما قال إن على السيد البيض تقديم الاعتذار للشعب اليمني، كونه المتسبب في حرب 1994.. وأتذكر أن حيدر العطاس رئيس الوزراء السابق المتميز كان قد لام البيض حينذاك على الاعتكافات، التي بدأها في شهر أغسطس 1990 بالتزامن مع نشوب أزمة احتلال العراق للكويت.. وقد وجه السيد العطاس تلك الملاحظات في مقابلة أجراها في جنيف مع صحيفة الشرق الأوسط.. وأذكر إن مما قاله العطاس حينذاك، هو إن إدارة الدول ومعالجة المشكلات لا تحل بالاعتكافات.، وربما يحسن القول للمعنيين اليوم ، الذين نحترمهم على المستوى الشخصي، ولا نوافق أداءهم السياسي، إن قضايا الوطن المصيرية لا تحل بالانسحابات ولا المزايدات ..!
طيلة فترة السنوات الثلاث التي سبقت حرب 1994، كان البيض مرة يعتكف، وأخرى يظهر على الناس خطيبا بليغا ومؤثرا ، يتبنى قضايا الشعب اليمني، كله بالطبع ، ويعبر عن الأحلام والتطلعات في البلد المحترم الموحد المهاب، الذي صار رقما كبيرا ويصعب تجاهله، على حد تعبير البيض نفسه في خطاب له عام 1990 .. ودائما لم يكن البيض ينسى توجيه سهام النقد للرئيس السابق صالح الذي تمت شيطنته بما فيه الكفاية في ذلك الوقت، فيما حظي البيض بشعبية وتأييد كاسح... وتوارى صالح الذي تراجعت شعبيته ومكانته، وعلاقاته بالناس إلى مستوى دون المتوسط ، ولم يكن قادرا على مجاراة بلاغة البيض، الذي لو استمر يناضل في ظل الوحدة، لكسب الشعب اليمني كله في الشمال والجنوب وربما لتغلب في النهاية على غريمه اللدود وشريكه من قبل، حيث لم يكن الشعب مشرذما نفسيا ووجدانيا عقليا وعقائديا، مثلما عليه الحال اليوم، بل كان على استعداد للالتفاف حول من يجسد الأهداف الوطنية الكبرى وأهمها الوحدة والعدل .. لو استمر البيض في تجسيد ما يدعو إليه عمليا، لسلمت البلاد، من متاعب عديدة ومنها حرب 1994 ونتائجها، ولتخلد البيض، رمزا وطنيا كبيرا دون منازع.. لكن الأقدار ، والقدارت الذاتية، والطباع الخاصة ، والأخطاء الكبيرة، شاءت له وللبلد مساراً ومصيراً آخر..
بعد إدراك الناس حقيقة مقاصد البيض، نحو الانفصال، خاصة بعد زيارته الشهيرة وآخرين من القادة المتوافقين معه لدول خليجية كانت تناهض الوحدة حينذاك ، انفض الناس من حوله.. وكانت تلك الزيارة، بعد توقيع وثيقة العهد والاتفاق في عمان مباشرة.. ولم يكن الأمر مفاجئا أن يلتف الناس حول غريمه ولو على مضض، الذي رفع شعار “الوحدة أو الموت” ولم يكن ذلك الشعار مستهجنا في ذلك الوقت، كما أن الوقت لم يكن كافياً ليسعف معسكر الانفصال لشيطنة الوحدة مثلما عليه الحال اليوم ، وتحميلها أوزارا وإفكاً لا علاقة لها بهما ..
لم تكن حرب1994 حرب الشمال ضد الجنوب كما يحرص كثيرون على تأكيد ذلك اليوم، بل إن الجنوب هو الذي انتصر للوحدة و دحض الانفصال، بالفعل، وكان أبرز القادة الميدانيين الجنرال المحترف الرئيس الحالي، عبد ربه منصور هادي .. كان جل شعب الجنوب أيضا مع الوحدة.. وعلى الرغم من سعي البيض وفريقه نحو الانفصال وممارسته على أرض الواقع ، لم يكن يجرؤ أحد منهم على التصريح بذلك. مثلما يفعل كثيرون اليوم .. لكنهم في كل المناسبات كانوا يتحدثون عن الوحدة التي انتهت ولم تعد موجودة على الأرض، كان ذلك قبل الحرب، وكثيرا ما كانوا يقولون لنا، أذهبوا وشوفوا..! ونحن على يقين عن ما الذي قد نسمع ونشوف، نتيجة لخبرات ودور التعبئة الشمولية المتطرفة، وأثرها..!
وعند ما حسمت الحرب لصالح الوحدة ، ظهرت بلادة الذين ظنوا أن تلك الحرب ستكون نهاية التاريخ، وظهر الفساد في كل شيء، وتفشت عنجهية جهوية غبية، و برز غرور واستعلاء منقطع النظير، مس الجميع في كرامتهم وحقوقهم ومكانتهم بمن في ذلك جنوبيون شاركوا في الحرب لصالح الوحدة، ولم يسلم من ذلك الرئيس هادي نفسه الذي كان نائبا للرئيس من بعد الحرب ولكن بدون صلاحيات تذكر.. ومع ذلك لم يتزعزع إيمان هادي بالوحدة ، وقال لي ذات مرة : لقد خلقت وحدويا.. وقال لي قيادي جنوبي كبير آخر، في حضور عدد من الجنوبيين، في رمضان الفائت، معلقا على موضوع الاعتذار الذي كان يجري الحديث عنه حينذاك ، يجب أن يكون الاعتذار عن نتائج تلك الحرب، أما الوحدة فلا مبرر للاعتذار عن الحرب من إجل الحفاظ عليها، ولو تعرضت لأي مخاطر مجددا فسنحارب من جديد في سبيل الحفاظ عليها، مثلما تفعل جميع الدول والأمم..!
والحق فقد كانت الحقبة التي تلت حرب 1994 حقبة عبث وفساد وتدهور وطني وقيمي شامل ، تستلزم الاعتذار للشعب والتاريخ والقيم والحضارة، ولعل الدكتور عبد القوي الشميري يتذكر الحديث الذي دار بيني وبينه ليلة 7/7 / 1994 عند ما رآني واجما وحزينا، وتساءل عن السبب؟ .. فقلت سيسود الفساد والفاسدون بعد هذه الحرب..!
وقد ساد فساد لم يتخيله أحد ، وكان اشمل وأوسع وأخطر وأعمق مما تخيلته أيضا.. وبعد صبر طال بعض الشيء، وبعد تلاشي آمال الإصلاح، تململ الشعب في الجنوب وانتفض في الصورة التي سميت بالحراك، ثم لحقه الشمال في ثورة شعبية عارمة، تمهد الطريق لتغيير وإصلاح وطني شامل، في ظروف لا تخفى صعوبتها وتحدياتها وتعقيداتها .. ولا تخفى الحاجة معها، إلى الزمن والصبر..
ذات مرة قلت إن الجنوب لن يضام ولن يظلم في عهد الرئيس هادي وما بعد عهده أيضا .. والرئيس هادي وهو الرجل الحصيف المتزن الحازم ، يدعم تاسيس نظام حكم يحقق العدل لكل أهل اليمن، وأول بوادر ذلك النظام هي الآلية التي اعتمدت في الالتحاق بالكليات العسكرية والأمنية هذه السنة، وهذه الالية وإن كانت لا تزال في بدايتها لكنها مؤشر يدل على رؤية وتوجه يحقق تكافؤ الفرص بين أبناء الوطن الواحد، في أهم مؤسسة وطنية، شابها السيطرة والاستحواذ المناطقي والعشائري وأسفر ذلك عن خلل وعيوب وقصور تخل بقضية العدل وتكافؤ الفرص بين أبناء الوطن الواحد وتضعف من كفاءة المؤسسة العسكرية وفعاليتها ..قبل ثورة الشباب تحدثت عن مظالم في هذا الصدد في أكثر من مناسبة ،،وذكرت أن عدد القادة العسكريين في مديرية مكيراس التي ضمت إلى محافظة البيضاء أكثر مما لدى محافظة البيضاء بأكملها.. وتأكد لي حجم الاختلال بعد أن سألني وزير الدفاع قبل أيام ، هل يوجد ضابط من البيضاء مؤهل ليكون قائد لواء ، فلم نعثر على أحد..!؟
وذات مرة ، وقبل ثورة الشباب أيضا أشرت في مقال بعنوان « عشرون عاماً من العبث » إلى أحد أهم مظاهر العبث، وهو حال الجيش الوطني الذي عايشت وحدات منه أربعين يوما في حرف سفيان.. ولفت نظري هناك حديث القادة عن زميلهم القائد الذي لا يرى الشمس حتى في فترة اشتداد المعارك، وهو ينتمي إلى عشيرة نافذة في الجيش لم يستطع وزير الدفاع اقتراح تغييره، حينذاك، واكتفى باقتراح تعيين أركان حرب للواء يتمتع بالشجاعة والكفاءة العالية...!
طيلة الأربعين يوما لم نر ذلك القائد المقرب المدلل، وكنا نسمع كثيرا عن مواجهات الأركان معه، وهو ضابط متميز، وشهدنا إطلاق الرصاص و مظاهرات المجندين، وهم يطالبون بحقوقهم المالية التي أستولى عليها ذلك القائد المرفه ، ثم أجبر على إحضارها من بيته في صنعاء.. !
وصدق الرئيس هادي عند ما يقول : جيوش العشيرة والقبيلة لا تقاتل ولا تحمي حياض الأوطان، حيث يكون همها الكسب والفيد..! وتكون الهزيمة من نصيبها دائما..! ورأيت الهزيمة في صعدة وحرف سفيان ، ليس لبسالة الذين يقاتلون الجيش هناك، أو لعدالة قضيتهم ، لكن الجيوش التي تستحوذ عليها اعتبارات العشائر ومصالحها لا تنتصر.. !
يدرك الرئيس هادي أنه رئيس لكل اليمن، ومع ذلك فهو يتبنى المعالجات العملية العادلة والمسؤولة للقضية الجنوبية التي يعرف طبيعتها وأبعادها، وحقيقة علاجها.. وهو ليس بحاجة لمن يذكره أو يزايد عليه فيما يخص الجنوب .. ومع أنه رئيس اليمن كلها فهو أيضا ابن الجنوب، وقد شرع يسمي الأشياء بأسمائها، عند ما يعلن في وجه المزايدات والمغالطات إن ملامح الحل لقضية الجنوب، أفضل بكثير مما تحقق للجنوب في 1990’ ، أو ما تضمنته وثيقة العهد والاتفاق عام 1994، وهاهو فخامته يؤكد أيضا أن الوحدة مقدسة ويصف أولئك الساعين نحو ما يسمى بتقرير المصير أو استعادة الدولة بالساعين خلف السراب.. وكلما تمادى أولئك فسوف يضطر فخامته لقول وحديث وتفصيل أكثر وضوحا وتحديدا مما سبق، وحينذاك سيكف المزايدون، الذين صمت بعضهم أكثر من خمسة عشر عاماً، دون كلام.. ولما سنحت الفرصة انبرى ذلك البعض، يدفع هذه المرة في سبيل تاجيج الكراهية والعنف على أسس جهوية لا عهد لأهل اليمن بها..ويتم ذلك بتمويل خارجي وأسلوب فاشي وشوفيني، وقد تستحضر فيه تجارب وأساليب الماضي الشمولي الذي استهدف فئات من أبناء الجنوب ذاته في الستينات وبداية سبعينات القرن الماضي على أسس اجتماعية وطبقية كما قيل حينها.
وزير الإعلام
بين الاعتكافات والانسحابات.. تكرار الأخطاء القديمة
أخبار متعلقة