كلنا نعرف حجم الصدمة التي أصابت الإدارة الأميركية وهي تري مخططاتها لتفكيك الشرق الأوسط وإعادة تركيبته وفق مصالحها، تنهار أمام عيونها مع سقوط حكم الإخوان في مصر.
كننا كنا نتصور أن الدولة الأقوى في العالم قادرة على امتصاص الصدمة، وأن ما اشتهرت به من "براغماتية" سوف يمكنها من التعامل مع الموقف الجديد، بعد أن تدرك خطأها الفادح في الرهان على "الإخوان" وتسليم مصير دول عربية كبرى لجماعات الإرهاب.
ما حدث بعد ذلك كان - للأسف الشديد - استمراراً للرهانات الخاسرة من جانب واشنطن التي لم تستوعب معنى الخروج العظيم لشعب مصر في 30 يونيو، ولم تدرك معنى فشل ضغوطها على قيادة الجيش حتى لا تنحاز لإرادة الشعب، واستمرت في محاولات دعم "الإخوان" لتعطيل الحياة في مصر ونشر الإرهاب في أرجائها، وقدمت لهم كل ما تستطيع من مساندة سياسية أو دعم مالي أو إعلامي، سواء عن طريقها أو بواسطة الحلفاء والتوابع من دول المنطقة ومن التنظيمات العالمية للإرهاب.
صحيح أن الإدارة الأميركية لم تصف ما حدث في مصر بأنه "انقلاب"، وصحيح أن السفيرة السابقة في مصر "آن باترسون" قالت لبعض من التقتهم من السياسيين المصريين إنها تعرف جيداً أن ما حدث في مصر هو "ثورة شعبية"، لكن ذلك لم يمنعها لا هي ولا أركان الإدارة الأميركية من ممارسة الضغوط على النظام الجديد في مصر ومن تشجيع الإخوان على إثارة القلاقل وممارسة العنف وإعطائهم الأمل في إمكانية التدخل الأجنبي.
وصحيح أن الرئيس الأميركي أوباما قد أقر أخيراً بأن المعزول مرسي فشل في حكم مصر فخرجت الملايين لإسقاطه، ولكن الصحيح أيضاً أن التنسيق بين قيادات الإخوان وتنظيمهم الدولي وبين أجهزة مخابرات تمتد من تركيا إلي باكستان مروراً بأطراف عربية وأوروبية للتآمر على مصر لا يمكن أن يتم بعيداً عن عيون واشنطن أو رغم إرادتها.
وصحيح أن واشنطن قد اضطرت لابتلاع الصدمة التي تلقتها بالموقف الحاسم من السعودية والإمارات وأطراف عربية أخرى وقفت بكل إمكانياتها السياسية والاقتصادية وراء مصر. لكن الصحيح أيضاً أن واشنطن لم تتوقف عن الضغوط وخلق المتاعب أمام مصر.
الآن.. تدخل العلاقات الأميركية المصرية مرحلة جديدة من التأزم مع قرار واشنطن بالحظر الجزئي على بعض المعونة العسكرية وتأجيل تسليم مصر أسلحة متعاقد عليها، انتظاراً لتحقيق الحكومة الانتقالية في مصر تقدماً بشأن الديمقراطية وحقوق الإنسان.
بالطبع يبدو حديث واشنطن عن "الديمقراطية وحقوق الإنسان" من باب الهزار السخيف. فلا الديمقراطية التي حققتها في العراق على جثث مليون ضحية تقنع أحداً، ولا الحديث عن حقوق الإنسان يتوافق مع دعم تنظيمات إرهابية وتسليمها الحكم في مصر وغيرها من الدول العربية.
ولهذا وجب البحث عن أسباب أخرى لهذا الموقف الأميركي الذي يضع واشنطن في مواجهة شعب مصر، ويستحضر تجارب سابقة مثل تجربة سحب تمويل السد العالي في الخمسينات من القرن الماضي، وما تبعها من تطورات دفعت أميركا ثمنها غالياً.
السيناتور الأميركي ماكين استعاد هو الآخر التاريخ، ووضع الأمور "على بلاطة" كما يقولون، حين وقف يصرخ محذراً - في حوار أخير له - من شبح عبدالناصر الذي يقلق منامه ويثير المخاوف لديه من عودة مصر لحكم يعرض مصالح أميركا للخطر، مشيراً إلى صور الفريق السيسي في شوارع القاهرة وما يكتسبه من شعبية لدى ملايين المواطنين الذي يقدرون دوره في الانحياز لثورة الشعب في 30 يونيو رغم كل الضغوط.
والحقيقة أن القضية ليست شخص عبدالناصر بل ما يمثله لدى المصريين والعرب، وليست أيضاً شخص السيسي فقد كان الأمر مطروحاً قبل ظهوره على مسرح الأحداث. الصورة الوحيدة التي ارتفعت في ميادين التحرير بمصر في ثورة يناير كانت صورة عبدالناصر. وكان لافتاً أيضاً أن العالم العربي كله عبر عن أمله في عودة مصر التي غابت عنه طويلاً وغاب دورها الفعّال.
فكان ذلك وبالاً على مصر وعلى العرب، ولعل هذا كان عاملاً أساسياً وراء التحالف المشبوه بين أميركا والإخوان وغيرهم من الجماعات المتأسلمة، ودعمها لهم للوصول للحكم في دول الربيع العربي لقطع الطريق على المسار الذي كان من المأمول أن تسير فيه هذه الدول وهي تخرج بالثورة من دائرة التبعية إلى الاستقلال، ومن حكم الاستبداد إلى الحرية والعدل.
منذ البداية، وبينما واشنطن تنسج خيوط تحالفها مع الإخوان، كان الطرفان ينطلقان من موقف العداء لثورة يوليو بكل ما تمثله مصرياً وعربياً، وكانت محاولة تصوير ثورة يناير على إنها انقلاب على يوليو.
ومع سقوط حكم الإخوان كانت الملايين تدرك أن طريق يوليو (قبل أن تتعرض للثورة المضادة في منتصف السبعينات) كان تجسيداً لأهداف الحركة الوطنية في الاستقلال والحرية والعدالة والتقدم والانتماء القومي العربي. وكانت الملايين تدرك أن هذا هو سبب الصدام بين مصر بقيادة عبدالناصر وبين أميركا من ناحية والإخوان من ناحية أخرى، وأن التاريخ يكاد يعيد نفسه بعد ستين عاماً!!
الآن تخوض مصر حرباً حقيقية ضد جماعات الإرهاب بقيادة الإخوان، فتعلن واشنطن الحظر على أسلحة مطلوبة لجيش مصر، تحاول مصر عبور أزمة اقتصادية تضاعفت تحت الحكم البائس للمعزول مرسي.
يقف معها الأشقاء وخاصة في السعودية والإمارات، بينما تمارس واشنطن الضغوط ويضرب الإرهاب السياحة ويعطل الإخوان المرافق ويحاولون استنزاف الدولة، تعرف واشنطن أن حكاية انحيازها للحريات وحقوق الإنسان لم تعد تقنع أحداً، فيبدأ الحديث عن شبح عبدالناصر الذي يقلق أميركا ويخيف الإخوان ويجمع أعداء الأمة في طريق التآمر والخيانة.
ليس عبدالناصر هو ما يخيفهم ولكن ما يمثله في ضمير المصريين والعرب. إنهم يخافون مصر المستقلة التي تملك قرارها وتعرف طريقها وتبني دولتها الحديثة وتعود لدورها العربي. إنها مصر التي في خاطر كل المصريين، والتي ينتظرها كل العرب، والتي يعاديها الخوارج وأعداء الأمة، وتقف في مواجهتها واشنطن والإخوان والإرهاب.. إيد واحدة.
أميركا والإخوان.. وشبح عبدالناصر
أخبار متعلقة