فى كل ذكرى لرحيل جمال عبدالناصر، تهمس له الملايين نفس ما ردّدته خلال جنازته، الأكبر فى تاريخ العالم: إحنا دوّبنا الحنين.. وأظن أن هذا الحنين المتجدّد والمتزايد بما لا مثيل له في هذا التاريخ، هو ما وصفه الشاعر العربي السوري الكبير نزار قباني: تضيق قبور الميتين بمن بها، وأنت كل يوم فى القبر تكبر. فمن أحبوا عبدالناصر ظلوا أوفياء لمبادئه ولمشروعه الذى أثار حقد الأعداء ومخاوفهم، وعلى رأسهم الولايات المتحدة الأمريكية التى خططت لـ«شرق أوسط كبير!!» اتضحت ملامحه المفزعة فى العراق وليبيا وسوريا، وكانوا يتوهمون أنه كقطار، يدهس فى طريقه الطائش، كل من يعترضه، حتى يصل إلى المحطة الأهم والأصل، أي مصر، أو الجائزة الكبرى كما كانوا يمنّون أنفسهم..
راودهم هذا الحلم الكابوسى بعدما اطمأنوا إلى قولهم غداة رحيل الزعيم: لن نسمح بظهور ناصر آخر! فإذا بهم وفى الذكرى الثالثة والأربعين لغيابه الجسدي، يستفيقون على حضوره حضوراً طاغياً، كاسحاً، لا يقبل شكاً أو تشكيكاً، وأكيد أنهم سمعوا هتاف شباب ثورة يونيو ويوليو المدوّي: يا بديع قول للشاطر، إحنا أحفاد عبدالناصر! كما لا بد أنهم رأوا مبهوتين، بعدما «طمأنهم» الإخوان إلى أن الوضع تحت السيطرة! أنّه بعيد عن السيطرة، بُعد الأرض عن السماء، وهم يعجزون عن حصر صور عبدالناصر فى كل ميادين مصر، والشعارات التى كان يهتف بها الشباب هى شعارات المشروع الناصري، الذى ناصبوه العداء «عيش.. حرية.. عدالة اجتماعية.. كرامة إنسانية».. ظلت قلوبنا تغني، بحزن للفراق، دون أن نفقد اليقين بعودته، إحنا دوّبنا الحنين..
لقد تنبّه المصريون إلى حقيقة البعث، قبل نزول الرسالات السماوية، وربما جاء من هنا ابتكارهم، بضم الأحباء بين الجوانح، لحين بعثهم، ليس بالجسد ولكن بما يمثلون.. ولكن أمريكا لا تفهم فى لغة الشعوب، وتصوّرت أن «قرارها بعدم السماح بظهور ناصر آخر» قرار لا يقبل المراجعة، أو على رأي عبدالفتاح القصري، لا يقبل نقضاً أو إبراماً!!!!!! وهو ما قد يفسر غضبتها العارمة جراء رفع صور الفريق أول عبدالفتاح السيسي إلى جوار صور عبدالناصر خلال الثورة، فعاد بعض قادتها يتبجحون، كما جاء فى رسالة الزميل «الطاهري» بـ«الوطن» منذ أيام: «لن نسمح بظهور ناصر آخر»، وكأن الشعب المصري قد امتثل لقرارهم القديم حتى يعودوا إلى ذات النغمة الفاشلة، وكأن أحداً نصّبهم أوصياء على شعوب العالم، بما فيها شعب مصر، ونسوا أن أم الدنيا أول من اكتشف البعث فى الآخرة، ولكن لا بأس من استحضاره معنوياً، عندما يستحق الأمر، فى هذه الدار الفانية..
حلّت إذن الذكرى الثالثة والأربعون، ولكن بمذاق آخر، حيث همسنا لـ«ناصر» بأن شبابنا الذى من أجله غيّر وجه الحياة فى الوطن، لم يخيّب ظنّه، وبأنه أبداً لم يسمح للمتربصين والعملاء بتحقيق مخططهم المدمر، بانتزاع ما حققناه بالعرق والدماء لصون وحدة أراضينا واستقلال إرادتنا التى أراد العابثون العبث بها..
أمريكا لم تتغيّر والأهمّ، لم تتعلم دروس التاريخ، ولأنها دولة حديثة، فهى لا تفهم كيف يكتب شعراء «الأبنودي ودرويش ونزار»، على سبيل المثال لا الحصر، قصائد فى جمال عبدالناصر بعد رحيله، وكيف غنّت له كوكب الشرق أم كلثوم، وكيف امتلأت الميادين بصوره، وتجددت شعارات ثورته.. ولذا فإن الذكرى هذه المرة مفعمة بالثقة والأمل مع كوننا دوّبنا الحنين إلى طلّته.
ذكرى رحيل مختلفة
أخبار متعلقة