في دراسته القيمة حول موقف بعض الجماعات الإسلامية من الغرب والتي نشرتها مجلة «العربي» الكويتية في عددها رقم 402 الصادر في شهر مايو 1992م ، أجرى المفكر الإسلامي حسين أحمد أمين مقاربة تاريخية بين هذا الموقف وبين موقف مماثل له في الأديان الأخرى ، مشيراً إلى أن التجارب التاريخية دلت على ظهور جماعات دينية انعزالية في المجتمعات التي تمر بهزات عنيفة ، حيث تميل هذه الجماعات إلى إغلاق الأبواب أمامها وتنزع إلى العيش في طوطم أو( جيتو ) خاص بها ، وتتجنب الانفتاح أو الاتصال بالتيارات العلمية والفكرية التي عرفتها مجتمعاتهم في أوقات مختلفة .
ويوضح د. حسين أمين فكرته بتفصيل أدق بقوله : « كان هذا هو ما حدث أيضاً في العالم الإسلامي مع بداية الثلاثينات من هذه القرن حين بدأت جماعات اسلامية تـُروِّج لدعوة شديدة الاختلاف عن دعوة المصلحين الإسلاميين من أتباع الطهطاوي ومحمد عبــده ، بل ورأت في هؤلاء المصلحين دعاة للتغريب والعلمانية ، إذ هم لم يطعنوا في قيم الغرب بل انتحلوها للاسلام» .
ويضيف حسين أمين قائلاً : « ذهبت هذه الجماعات بدءاً من الإخوان المسلمين إلى أن الإسلام بمفرده قادر على التصدي لهذه التحديات دونما حاجة إلى اقتباس من حضارات أخرى ، غير أنهم لم يفلحوا إلا في ابراز حفنة من النقاط والقضايا التي ركزوا عليها والحــّوا في تكرارها إلى حد الإملال واعني بها موضوع الربا وفائدة البنوك وسفور المرأة وتحديد النسل والحدود ، والنفور من استخدام مناهج البحث العلمي والتاريخي في العلوم الانسانية .. ولذلك فان مفهوم المعرفة والمعلومات عندهم انها ثابتة وخالدة وقد نجم عن ذلك ثلاث عواقب :
الأولى : أن المعرفة عندهم لم تعد عنصراً ابداعياً ديناميكياً في الفكر مما اسهم في قهر كل نشاط فكري حر بدعوى مخالفته لعقيدة السلف .
الثانية : أن اعتبار المعرفة دائرة مغلقة وثابتة ، يجعل من الصعب تقبل او ابداع المعارف الجديدة ما لم تجد لها سنداً في فكر السلف الأقدمين .
الثالثة : أن سبيل اكتساب المعرفة هو تجميعها من كتب الأسلاف أو الكتب الحديثة القائمة على كتب الأسلاف لا التحليل والاستنباط والتجربة والفكر الحر ، وكلها عواقب خلقت عند غير المسلمين تصوراً خاطئاً بأنه لا يمكن أن يكون للإسلام مستقبل ما دام عاجزاً عن مسايرة التطور » ( راجع ايضاً كتاب مجلة العربي : «الإسلام والغرب » ــ يوليو 2002م) .
في هذا السياق لاحظ كل من الدكتور اسحاق الحسيني في كتابه ( الإخوان المسلمون) ، والأستاذ غازي التوبة في كتابه ( الفكر الإسلامي المعاصر ) ، ان حسن البنا وعبدالقادر عودة وسيد قطب الذين قضوا نحبهم اغتيالاً أو إعداماً ، كانو اكثر سلفية وتصلباً وميلاً للعنف، بينما مثلت المدرسة الإخوانية السورية ( مصطفى السباعي، محمد المبارك و معروف الدواليبي )، نهجاً منفتحاً ازاء الفكر الحديث . فقد شارك السباعي والمبارك في الانتخابات البرلمانية في الخمسينات، وتزعما « الجبهة الإسلامية الاشتراكية » في البرلمان السوري عام 1959م ، كما كتب المرشد العام للإخوان في سوريا كتابه الشهير « اشتراكية الإسلام» عام 1959م . اما المدرسة الأردنية فقد اتجهت في الخمسينات الى العنف بعد ضرب الإخوان المسلمين في مصر على اثر محاولة اغتيال الرئيس جمال عبدالناصر عام 1954م، حيث أسس تقي الدين النبهاني ما يسمى (حزب التحرير الإسلامي) مشدداً على إقامة دولة الخلافة قبل أي إصلاح للأوضاع السياسية والاقتصادية والاجتماعية، فيما اتجهت جماعات اخرى خرجت من تحت عباءة الإخوان المسلمين الى التكفير والعنف ، مثل الجماعة الإسلامية، جماعة الجهاد ، جماعة التكفير والهجرة ، الجماعة السلفية للدعوة والقتال ، جماعة انصار الشريعة ، وجماعة «المهاجرون » ...الخ ، وفتحت هذه الجماعات الطريق واسعاً امام النزعات الجهادية المسلحة التي نشأت على تربة الجهاد الأفغاني حيث تزاوجت الأفكار السلفية التقليدية والأفكار السلفية والوهّابية المتشددة مع أفكار الجهاد التكفيري ، وأنجبت في وقت لاحق الجبهة الإسلامية العالمية لقتال اليهود والنصارى ، وذراعها العسكري المعروف بتنظيم « القاعدة » .
يحلو للخطاب الديني الشعبوي الراديكالي أن يستشهد في بعض مداولاته الفكرية بالتجربتين اليابانية والصينية اللتين تمكنتا من النهوض بعد هزيمة اليابان في الحرب العالمية الثانية ، وانتصار الثورة الصينية بقيادة ماو تسي تونغ دون أن تتراجعا عن اصوليتهما الكونفوشية، بيد أن هؤلاء يتجاهلون ميكانيزمات القدرة اليابانية والصينية على الاستجابة للتحديات الحضارية ، فقد وقع الخطاب السلفي العربي في وهم تاريخي عندما فاته التمييز بين الاستعمار الغربي الحديث ومن ورائه حضارته الرأسمالية الجديدة وبين الحملات الصليبية وإرثه من العصور الوسطى، حيث ركزت اليابان والصين على الطابع الرأسمالي للحضارة المعاصرة، ثم استوعبتا قيمها الحديثة وتلاقحتا معها في سياق حضاري مشترك ، بعيداً عن أي توصيف ديني او ثقافي او جهوي ، بعكس ما يفعله الخطاب السلفي في العالم العربي والإسلامي حين يصر على توصيف الحضارة المعاصرة جهوياً (الغربية) او دينيــاً (المسيحية ) !!
من جانبه يرى الدكتور هشام شرابي في كتابه الشهير (المثقفون العرب والغرب : عصر النهضة(1914-1879 ) الذي نشره باللغتين الانجليزية والفرنسية وترجمته الى العربية دار النهار في بيروت عام 1971م ، أن السلفية نجحت في صد الحملات الصليبية ولم تنظر اليها كحرب دينية مع انها كانت تشتمل على شيء من هذه ، بل اطلقت عليها اسم حروب الفرنجة ، ثم نامت بعدها مطمئنة إلى انتصارها التاريخي وإلى تفوقها على الغرب المسيحي الفرنجي ، الأمر الذي فوّت عليها ادراك معنى خمسة قرون من النهضة الحضارية الانسانية الحديثة ، ومن التحولات الجوهرية غير المعهودة من قبل في مجالات الفكر والعلوم والاجتماع والتقنية ، وكانت النتيجة أن خسرت معارك الحرب بعد أن فاتها الاسهام في معركة الحضارة ، ولم يظهر عليها انها استوعبت الأبعاد الكاملة لأزمتها التاريخية بعد تلك الهزائم إذْ لم تقدم استجابة حاسمة للتحدي بعد !!.
يقيناً أن ثمة حاجة ماسة لمعالجة فجوة التخلف الحضاري التي يعيشها العالم العربي والإسلامي .. ولا يمكننا عبور هذه الفجوة إلاباكتشاف الإسلام في داخل هذه الحضارة التي أعطت الإنسان انجازات عظيمة ، ونقلت حياته الى مستوى متطور، حيث تعلق البشرية على منجزاتها العلمية والتقنية تطلعات مشروعة لتجاوز مشاكل الفقر والتخلف والمرض .
مامن شك في أن التمسك بالخطاب الثقافوي السلفي الملتبس بالدين سيقودنا اما الى الانعزال عن العالم الواقعي وبالتالي تعميق الفجوة الحضارية ، او الخضوع للقوى الكبرى ولما يريده ورثة الخطاب الاستعماري في الغرب ، وهو خطاب ثقافوي أيضاً يسعى الى فرض خيارين لا ثالث لهما : خيار الانعزال او خيار الخضوع!!
لعل المطلوب هو إحياء الأفكار التي بشر بها رواد التنوير وتطويرها بعد إعادة قراءتها بالنظر الى المتغيرات الهائلة التي حدثت في بنية الحضارة المعاصرة خلال القرنين الماضيين، وتجاوزت بالضرورة محددات سؤال النهضة الذي طرحه رواد فكر التنوير في العالم العربي والإسلامي في القرن التاسع عشر ، لأن إحياء فكر رواد التنوير يؤهلنا لاكتشاف القيم الحضارية الحديثة ، وهي لا تتعارض بالضرورة مع القيم الإسلامية الصحيحة والأصيلة .. مع الأخذ بعين الاعتبار ان الحضارة الإسلامية أسهمت في صنع القيم الانسانية للحضارة الحديثة عبر سيرورة التحولات الحضارية .
ولا ريب في أن الثقافة السلفية البدوية التي نزعت الى موروث الجاهلية بعيدا ً عن جوهر الإسلام ، غير مؤهلة لاكتشافه داخل حضارة العصر ، ناهيك عن ان النزعة الماضوية لهذه الثقافة كان لها دور كبير في وجود هذه الفجوة الحضارية، والحيلولة دون عبورها منذ ظهورها في القرنين الخامس والسادس الهجريين، اللذين يؤرخان لبداية تراجع الحضارة الإسلامية.. وعليه فان نقد هذه الثقافة يبدأ بإعادة الاعتبار للعقل الذي تعرض للعدوان والتغييب على يدها منذ حوالي تسعمائة عام !!
وحين نعيد الاعتبار للعقل ورواده الأوائل، سيصبح بالإمكان التخلص من تأويل هذه الثقافة للإسلام ، وهو تأويل عاد بنا الى ثقافة الجاهلية وابتعد كثيراً عن الإسلام. ولابد أن يتكامل هذا النقد مع نقد آخر مواز لمظاهر الخلل في الحضارة المعاصرة ، وهو الخلل الذي يغذي الكثير من الاختلالات المسؤولة عن غياب التوازن في ميدان انتاج واستهلاك الحضارة ، وتهميش غالبية شعوب وبلدان الكرة الأرضية ، ووقوع أكثر من نصف البشرية تحت خط الفقر, وتصاعد نزعات الهيمنة والسيطرة التي تسعى الى تكريس التبعية السياسية والاقتصادية والثقافية في العلاقات بين الدول والشعوب والثقـافـات , وصولاً الى بروز ميول خطيرة تتجه نحو مصادرة التنوع الثقافي عبر فرض بعد واحد للسياسة الدولية والحضارة العالمية .
يتوجب القول بأننا لسنا وحدنا من يهمه هذا النقد، فهناك اوساط أكاديمية واجتماعية ودينية من الغرب والشرق تشارك على حد سواء في نقد مظاهر الخلل الذي يشوه بعض جوانب الحضارة الحديثة ، ولذلك فإن نقدنا لهذه الحضارة يجب أن ينطلق من الإيمان بالقيم الإنسانية المشتركة لمختلف الثقافات والأديان والأمم التي يوحدها مصير مشترك .. بمعنى أن يتكامل نقدنا للآخر مع النقد الذاتي الذي سبقتنا اليه قوى حية في الغرب أسهمت ولاتزال تسهم في نشر مبادئ الحرية والديمقراطية والعدالة وحقوق الإنسان والسلام والمساواة والتسامح الديني والتضامن الإنساني ، وتصدت ولاتزال تتصدى لنزعات السيطرة والهيمنة والإلغاء ، وتدعو الى الحفاظ على البيئة وحماية الطبيعة وإعلاء القيم الإنسانية المشتركة .
خلاصة القول ان نجاحنا في النقد الإيجابي لمظاهر الخلل في الحضارة العالمية السائدة يتوقف على مدى نجاحنا في تأسيس رؤية ثقافية منفت حة على الآخر ، ومحفزة للعقل بوصفه أداة للتفكير الموضوعي والبحث العلمي ، الأمر الذي من شأنه أن يساهم في تطوير فهمنا للعالم والتفاعل مع متغيراته وتجاوز رواسب الجمود والتعصب والانغلاق وغيرها من الكوابح التي تكرس الإقامة الدائمة في الماضي ، وتحول دون الخروج من فجوة الانقطاع الحضاري ، وصولاً الى الانتقال من ثقافة الانغلاق الى ثقافة المشاركة ، وهو المدخل الوحيد لمشاركة الشعوب والأمم والثقافات المختلفة في حراك الحضارة الإنسانية المعاصرة .
الدوائر المغلقة
أخبار متعلقة