المعجــزة والشعــوذة : تفارق المعجزة الشعوذة بوجوه أهمها: أن المعجزة هي ما كان أمراً مخالفاً للطبع ناقضاً للعادة لا يقدر عليه المحتال ولا يدخل في مقدوره، وإذا اجتهد المرء في تحصيل المعجز فإنه لا يظفر به فيعلم أنه من باب المعجز، كانشقاق القمر وفلق البحر(1 ).
وفي (علم الاجتماع الديني)، فإنه عندما لا يشبع الدين حاجة المجتمعات البدائية إلى المعرفة، وخاصة في تفسير بعض الظواهر الطبيعية المحيرة، فإنه يتدخل السحر لإشباع الرغبات الإنسانية في المعرفة ولو الخيالية، ولذلك كثيراً ما يختلط السحر بالأديان وخاصة الوثني منها ويتزايد تأثير المعتقدات السحرية لدى الجماعات البدائية والمجتمعات المتخلفة، حيث يعمد على سبيل المثال، البعض إلى استغلال التأثير الروحي (والنفسي) للدين في نسبة الخوارق إلى نفسه وإيهام الناس بقدرته على شفاء الأمراض حتى المستعصي منها.
وبصدد (المعجزات) فقد أحسن البعض التفرقة بين المعجزة والسحر، فالمعجزة كدليل صدق النبوة، كانت دائماً تثير شبهة التباس المعجزة بالسحر، مما كان يؤدي، أحياناً، أن يلتبس على الناس الأمر بين نبي صادق ومتنبئ كاذب، فيجحد البعض النبي مع صدقه ويؤمن آخرون بالمتنبئ مع كذبه.
ويمكن تعريف المعجزة بأنها: كل ما عجز العقل البدائي أو العادي عن تعليله، فإذا درست الظاهرة التي يظنها الناس معجزة أو خرافة فإنه يمكن، في أغلب الأحيان، تفسيرها على أساس من دراسة وبحث وعلم، وعندما تفسر، ويدرك سرها، تنتفي في الحال طبيعة الإعجاز المنسوبة إليها، ذلك أنه إذا بزغ نور العقل ولى زمن المعجزات.
وعلى سبيل المثال تذكر لنا كتب التاريخ أو السير أن الإمبراطور (قسطنطين) الكبير قد اعتنق المسيحية بعد أن كان يعاديها عداًء شديداً، ويعلن عليها حرباً ضارية، وأن سر هذا التحول الغريب يرجع إلى (معجزة) رآها رؤية العين في السماء عام 312م، حيث (شاهد) الصليب معلقاً في السماء، ويذهب البعض إلى أنه بالفعل قد رآه في طبقات الجو العليا، ليس هذا فحسب، بل يزعمون إن الصليب كان يتحرك ويتراقص ويضيء أمام عينيه وعيون كل من رأوه، وعندئذ لم يجد بداً من اعتناق المسيحية، وصار من أخلص أنصارها، واتخذ الصليب له شعاراً، إذ كيف ينكر هذه المعجزة العظيمة وقد رآها رؤية العين( 2)؟!.
التفســـير الخرافـــي :
لا ريب أن الخرافة كانت لها أهمية كبرى في تنظيم الحياة الاجتماعية وفي إشاعة الولاء بين أفراد القبيلة لزعيمها أو العائلة لكبيرها في العالم القديم وما تبقى في عصرنا. كأن يقال مثلاً إن هناك إلها أو طوطما (Totem) (محرم) هو الذي أنجب جميع أبناء القبيلة أو كافة أفراد العائلة، وأن ذلك الطوطم هو الذي أختار زعيم القبيلة أو رب العائلة لكي يسير شئونها المتباينة(3 ).
ومن الثابت، تاريخياً، أن الإنسان قد عمد، بادئ ذي بدء، إلى تفسير كل شيء يحيط به بالأساطير من جهة، وبالخرافات والغيبيات من جهة أخرى، ويشمل ذلك حتى المزاعم الخرافية أو التي تبدو إلى الخرافة أقرب.
وعلى سبيل المثال تأليه إنسان اليمن القديم للشمس والقمر وعدد من النجوم والكواكب الأخرى وانتحاؤه إلى النـزعة الأرواحية في تناوله للأشياء المتباينة بما في ذلك الأحجار والجبال والنبات والحيوان، كاعتقاده بأن الإنسان شجرة لها روح خاصة بها، وأن لكل حيوان روحه أيضاً وهي أرواح لا تقل عقلاً وإحساساً ومسئولية عن روح إنسان.
غرائـــب الطبيعـــة :
في كتب التراث نجد حيوانات غريبة، رأس الواحد منها لحيوان وجسمه لآخر، وذنبه لثالث. هناك مثلاً: الحيوانات التي تتكلم، أو تساعد الإنسان، الفرس المجنح، طائر الرخ، مخلوق ذو ثلاث قوائم أو ثلاثة رؤوس، العنقاء، الرجل ذو الجسم الذي لسمكة، حيوانات (جزيرة الغرائب) ... الخ. وعلى سبيل المثال يسجل (القزويني) في كتابه الشهير (عجائب المخلوقات)، ملامح بعض المخلوقات الغريبة: دابة لها رؤوس كثيرة ووجوه إنسان الماء(4 )، أو ذلك الإنسان الذي وجهه على صدره، من العجائب الوحيدة التي يوردها القزويني. وقد ذكر البعض، أن أحد الفنانين الأوروبيين نسخ كتاب القزويني، مزينا إياه ببعض الصور للمخلوقات الخيالية فيه.
وفي مخطوطة (غرائب البدائع)، التي ألفها (سلطان محمد البلخي)، في سنة 1000م، والمحفوظة اليوم في مكتبة تشيستر بيتي (Chester Beatty) حيوانان غريبان يتكون الواحد منهما من أكثر من كائن. ففي الورقة (72) توجد صورة مخلوق له وجه إنسان وجسم حيوان، ومخالب طائر.
((وفي هذه السنة ولدت امرأة في قرية المنصورة من (بلاد اللامية) مولوداً عجيب الخلقة، عيناه في أعلى جبهته، وحاجباه من تحتهما، وله فم كفم الكلب، ويداه كأيدي السبع عليهما شعر أسود، وكفاه مثل كفي القرد، وليس له فرج ولا دبر، ولم يلبث غير ساعة ثم مات، فسبحان الخالق البارئ المصور)).
((ومن عجيب ما اتفق في هذه المدة أن جارية في زبيد للأمير محمد بن الفخر ولدت مولوداً على سبعة أشهر، وجهه وجه جدي، وله قرنان وعينان في وجهه وعينان خلفه، وأذناه في رأس كتفه، وأنفه معوجة، وله سن وناب وأربع أرجل، في كل رجل أربع أصابع، وله من أمامه ذكر ومن خلفه فرج أنثى)).
القناع المخيف:
الملاحظ هو أن الطقوس التي لا تزال تجري حتى الآن في المجتمعات المتخلفة والبدائية، هي ذاتها التي كانت موجودة قبل مئات السنين وإن أصابها بعض التحوير والتطوير إلا أن الثابت هو أن غالبية الشعوب المتخلفة كما هو الحال لدى قطاعات شعبية واسعة باليمن لا تزال لا تعترف إلا بطب الساحر، وتمائم الكاهن المعاصر، وعلاج المشعوذ، وحكمة العجائز. لقد سعى المعالج المشعوذ لعلاج أمراض بني قومه بوسائل لا زال المشعوذون يتبعونها حتى الآن ولكن بعد إجراء تعديلات مختلفة عليها. لقد كان المشعوذ قديماً في الأحراش والغابات، يلبس ثياباً غريبة من جلود حيوانات خاصة، ويضع على وجهه قناعاً مخيفاً، ويعلق أحجبة وتعاويذ وقروناً وريش طيور ... الخ، ثم تراه يصرخ ويعوي، ويأتي أمام المريض بحركات هستيرية، ويتمتم بكلمات غريبة، كل ذلك لإخافة الجني أو العفريت أو الروح التي (تقمصت) جسد المريض، فإذا خافت من منظره وصراخه وحركاته، انطلقت خارجة من الجسد الذي سكنته، فيُبَلَّ المريض، وإذا لم تخرج، فعليه - أي المريض - أن يلجأ إلى ساحر آخر أكثر مراساً، وأشد بأساً، فإذا فشل هذا أيضاً، فعلى المريض أن يتقبل قضاءه وقدره بنفس راضية، فتلك هي مشيئة الآلهة ألا يتداوى.
القربان والبحر :
ذكر (ابن بطوطة) في كتاب رحلاته - أنه في الوقت الذي كان الناس في بعض الجزائر يعبدون الأوثان، كانت تظهر لهم في كل شهر روح شريرة من الجن، تأتي عبر البحار على شكل سفينة مليئة بالمشاعل الملتهبة. وكان الشغل الشاغل للناس حين يرونها هو البحث عن فتاة عذراء صغيرة، يزينوها ثم يسوقونها إلى معبد وثني معين على الساحل له نافذة تطل على البحر، فيتركون الفتاة هناك طوال الليل، وعندما يعودون إليها في الصباح كانوا يجدون أنها فقدت بكارتها وفارقت الحياة. وكان الناس يسحبون - القرعة - في كل شهر، فمن وقعت عليه القرعة، وجب عليه أن يتنازل عن ابنته لجني البحر، وظل الحال كذلك حتى جاء رجل صالح - سعد الدين أو مخلص أو ماري جرجس - من البربر وأمكنه أن يخلص آخر فتاة قدمت بهذه الطريقة إلى ذلك العفريت، وأن يطرد العفريت ذاته إلى البحر بتلاوة القرآن عليه.
ويصف الرحالة (ابن المجاور): بعض العادات البحرية في مدينة (عدن) اليمنية ومنها التضحية بالماشية أو الطعام للبحر حتى لا يُغرق المراكب ولكي يساعدها على الوصول إلى المرفأ بسلام كما يذكر أن المركب إذا حاذى مدينة (سقطرى) أو جبل كدمل - حد اليمن - يؤخذ قِدْر يعمل عليه شراع وسكان من جميع آلة المراكب ويعبأ فيه من الأطعمة من قليل نارجيل وملح ورمان ويلقى في البحر مع الأمواج الهائلة وأن المركب يصل بالسلامة(5 ).
وكان من عادات اليمنيين القدامى أنه إذا ضل أحدهم في الصحراء يقوم بذبح ناقته ثم يقلب ملابسه ويصفق بيديه كأنه ينادي على شخص آخر ويصيح في أذن الناقة قائلاً: الوحي الوحي، النجاة النجاة، العجل العجل، الساعة الساعة، إلى إلى، ثم يركب ناقته المذبوحة ويهتدي إلى الطريق. وقد ورد في قصة (سيف بن ذي يزن) أنه كان يلبس حلة من جلد الغزال ترد عنه، حسب اعتقادهم، أذى الشياطين(6 ).
وجاء الإسلام فأضافوا إلى الهلال والنجمة الآيات القرآنية. فبالنذور والقرابين لا برؤوس الحيوانات المخيفة كان رجال البحر في عصور الوثنية يتوسلون إلى الآلهة أن تحميهم من شر الأرواح الشريرة .
الهوامش
( 1) الحاكم الجشمي، (شرح العيون)، ص (350) وما بعدها.
(2 ) تذكرنا هذه بما جرى في مصر إبان حرب، حيث انتشرت حكاية مفادها أن مريم العذراء ظهرت على جدار إحدى الكنائس هناك لتبشر الناس بالنصر بعد هزيمة 1967م.
( 3) الجدير بالملاحظة هنا أن التحريم، في القبائل البدائية، يرتكز على أحد أساسين: إما لأن المحرم مقدس وأن الواحد من أفراد القبيلة دنس، وإما لأن المحرم دنس وأن الواحد من أبناء القبيلة مقدس ويجب عليه تجنب الدنس لا أن يتدنس مثله، ص (93).
( 4) القزويني، (عجائب المخلوقات)، بيروت، دار الآفاق، ص (156).
( 5) الفن والمعتقدات، عباس خضر، ص (135).
(6 ) انظر: (أضواء على تاريخ اليمن البحري)، ص (226)، حسن صالح شهاب، لجنة نشر الكتاب اليمني، عدن، 1977م.
أستاذ علوم القانون الجنائي - جامعة صنعاء
العقـــل البدائـــي
أخبار متعلقة