الحوار هو القيمة الثقافية الاجتماعية للشعوب والأمم التي سبقت غيرها في النهوض بمجتمعاتها من خلال ممارسة أبنائها لعملية الحوار في الحياة الاجتماعية والسياسية، فاستطاعت بهذه الثقافة تجنب الكثير من الظواهر القبيحة مثل التسلط والذل والخداع وغيرها من الأمراض الاجتماعية والاضطرابات السياسية .. ولأن الحوار قيمة اجتماعية ، فهو أيضاً مهارة اجتماعية رفيعة لا تأتي إلا بالتعلم والتجربة والخبرة ، بدءاً بعلاقات الفرد في محيط الأسرة وانتهاءً بعلاقته بالأمة.. وهذا ما يفـتقر إليه المواطن اليمني سواءً كان في السلطة أو خارجها .
فهل يستطيع الحوار الوطني الشامل حل المشاكل التي يعاني منها اليمن ، بما فيها القضايا السياسية والوطنية المهمة التي هي من اختصاص مؤسسات الدولة بالمشاركة الواسعة مع الشعب كمشاريع وطنية يقع على الدولة تقديمها لتخضع للاستفتاء الشعبي ، بينما الدولة لا تزال مخطوفة ويجب استعادتها أولا ؟! .. وهل يمكن النقاش في قضايا للحوار الوطني والاتفاق عليها بواسطة القوى السياسية كنوع من المزاج السياسي ، إلا في ظل دولة حاضرة بالفعل ترعى حوار المتحاورين بوقوفها على مسافة واحدة من كل أطراف الحوار بحيث لا يستطيع طرف الاستقواء بالدولة أو بجزء من سلطاتها أو مقدراتها ؟! .
لقد حاولت المعارضة اليمنية استخدام الضغط على السلطة السابقة بضرورة إجراء حوار في الفترة السابقة لمدة 5 سنوات ، ولوحظ أن اشتـداد ذلك الضغط كان سببا مباشراً في تـفـجير ثــورة شباب التغيير . وببـساطة يمكن الاستنتاج بأن الحوار بثقافته وقيمه الاجتماعية والسياسية المعروفة ليس له لغة في اليمن إلا تلك التي عبـر عنها في نهاية المطاف بالعنف المسلح في أحياء صنعاء.. وأن أمام الشعب اليمني سنوات طويلة ليتـحول فيها الحوار إلى قيمة اجتماعية وسياسية رفـــيعة .
وحيث أن المشهد السياسي اليمني لا يزال متأثراً بالقوى المالكة للثروة والسلاح التي تتجاذب لإفشال عملية الهيكلة في الجيش والأمن والقطاع المدني ولإبقاء الجزء الأكبر من الدولة بيد تلك القوى المتنفذة في النظام - سابقاً وحالياً - رغم أي قرارات رئاسية ، فإن عدم وجود التوازن العسكري والسياسي يتناقض مع المبادئ المتعارف عليها لأي حوار إيجابي.. ومن تلك المبادئ ضرورة وجود صدق وتفاؤل ، وواقعية لا تسمح بأي تأويلات، وكذلك التكافؤ الذي يحافظ على الاحترام بين الأطراف ويحد من استعلاء الطرف القوي على الأطراف الضعيفة، بالإضافة إلى ضرورة وجود مساحة مشتركة للأطراف ليبـدأ فيها النقاش والاتـفاق عليها لاستمرار الحوار قدماً. لكن هذا المشهد يقف على النقيض، الأمر الذي قد يوصل الحوار إلى جدل بـيزنطي لتثبت فيه الأطراف القوية تفوقها على الآخرين .
إن وجود تعدد واختلاف وتباعد وصعوبة في القضايا المطروحة على الطاولة أمام أطراف متناقضة مع بعضها ولا تملك ثقافة الحوار، وكذلك التلاعب في نوعية عناصر التمثيل لأطراف الحوار هي عوامل إفشال للحوار .. فما هي الأرضية التي يشترك بها الثوار، مثلا ، مع القوى النافذة في النظام ؟! .. وفي هذا السياق تتسابق القوى السياسية على من يمثلها في منظمات المجتمع المدني واعتبار تلك المنظمات جزءاً من الطيف السياسي .. إن وضعاً كهذا سيجعل منه حواراً تــسلطياً استـــعلائياً وإقصائياً ، وربما يأخذ صورة “حوار الذل” الذي تتملق فيه أطرف ضعيفة لأطراف أخرى قوية ، الأمر الذي ينتج عنه فقدان الكرامة لجميع الأطراف .
وقد لوحظ أن الأطراف الفاعلة في الحوار هي أطراف تمثل النظام ، سلطة ومعارضة في آن واحد ، ولهذا سيحاول كل طرف إظهار الجانب السلبي لدى خصومه ليجعل منه حواراً ذا صفة تعجيزية ، وهذه من الصفات السيئة لأي حوار . ومما يؤسف له أن الأطراف النافــــذة قد وضعت أولوية النقاش لقضية الجنوب التي مثلت أكثر القضايا خلافا وحدة ، ويفــتـقد فيها الأطراف إلى وجود أرضية مشتركة مع الطرف المعني بـها الغائب عن ذلك النوع من الحوار، وبالتـالي لا أحد يمكنه اتـخاذ أي قرار في ذلك الحوار، الأمر الذي يتــيح للقوى المتــنفــذة - بحكم امتلاكها للسلاح والثروة - العبث بالحوار وبكل القضايا المطروحة ، وربما تلجأ لحسم المواقف بالقوة .
وأخيراً ، إذا كان نظام صنعاء جادا في السير نحو استعادة وبناء دولة في اليمن ، فإن عليه أولا السير قدماً في الخطوات التي حددتها المبادرة الخليجية للوصول إلى اللحظة التي توضع بها صناديق الاقتراع أمام الشعب بحضور دولي مراقب للنزاهة في إجراء الانتخابات البرلمانية التي على أساسها يتم تشكيل حكومة قادرة على التعامل مع القضايا التي يعاني منها الشعب ، وتستطيع أيضا طرح بعضها للاستفتاء الشعبي ؛ بحيث توكل للحوار الحالي طرح رؤية عامة لشكل الدولة القادمة بدون اتخاذ قرارات .
هل يستعيد الحوار الدولة اليمنية المخطوفة ؟!
أخبار متعلقة