ما إن خرجت روحا أحمد حسن هاشم فتى مصر الجديدة، وحنا تادروس صومائيل فتى مصر القديمة، بين يدي المهندس إبراهيم الشربينى، الذى عاد من الخارج على عجل للمشاركة فى الثورة، حتى دارتا الميدان من أقصاه إلى أدناه تسبحان فوق رؤوس الغاضبين. رأتا ما لا يراه كل هؤلاء المحتشدين هنا، أو أولئك الذين ينتظرون الخلاص خلف الجدران المصمتة.
كانتا تبتسمان وترفرفان بلا أجنحة، وتلثمان الوجوه التى احمرت من الحماس رغم برد الشتاء. ترتفعان فى الهواء فتريان الميدان كله بقعة ملونة جميلة، ثم تهبطان معاً، لتحوما حول كل من اقترب انضمامه إليهما.
كان شارع محمد محمود مكتظاً بالمتظاهرين، والليل رمى سدوله على الجدران والأرض والحارات الجانبية والشجر الذى يتناثر داخل سور الجامعة الأمريكية. ومن عمق الظلام كانت تومض طلقات تعرف إلى أين تذهب. ولا تمر دقائق إلا ويأتي الشباب حاملين أحدهم مطروحاً فوق الأكتاف، ويقطر دماً من رأسه أو صدره، ولا تمر دقائق أخرى إلا وتصعد روحه إلى أخواتها، أو يشق له ممر إلى عربة إسعاف تأخذه إلى المستشفى، وهناك يخمد الجسد، فتنفتح أبواب قفص اللحم والعظم، ليخرج منه المارد المحبوس، الذى لا يعرف أحد عنه شيئاً.
ويرتل المقرئون فى المآتم التي تنعقد تباعاً:
«ويسألونك عن الروح. قل الروح من أمر ربي. وما أوتيتم من العلم إلا قليلا».
تتزامل أرواح الشهداء في عالم الغيب. تصاحب كل منها تلك التى كانت تصادقها في الدنيا. ولهذا ظلت روحا أحمد وحنا تطيران معاً. تذهبان إلى المكان الذي سقط فيه الجسدان اللذان كانا يحبسانهما سنوات، ثم تحطان على رأس الشربيني، وهو واقف على طرف الميدان، يعد «علب الطعام» التي اشترتها «لجنة الإعاشة» من تبرعات جمعها الثوار.
دخلتا ذات ليلة إلى مكتب السياحة. كان النقاش بين الإخواني الشيخ رأفت وأحد شباب الثورة يدعى حسن قد احتد. وقال له حسن، قبل أن ينصرف غاضباً:
ـ نحن الذين سنموت هنا. أما أنتم فستذهبون لعقد الصفقات التي تبقيكم على قيد الحياة. تمصون دماء هذا الشعب، وتسخرون منه، وتستعملونه مجرد أدوات لتحقيق أغراضكم التي لا تخص أحداً سواكم، لكنكم تتوهمون أن فيها سعادة الجميع.
كان رأفت يبتسم ساخراً، ثم انفجر فجأة فى حسن:
ـ نحن من يقدم التضحيات دوماً.
فهز حسن رأسه وقال:
ـ تضحيات من أجل مَن؟
ـ طبعاً من أجل هذا البلد.
ـ بل من أجل جماعتكم. مشروعكم الذي يعشش فى رؤوسكم كالوباء، والذى فصلتموه على مقاس أطماعكم حتى كاد يصير ديناً جديداً.
ـ هذا كلام مرسل، لا دليل عليه.
ـ أكبر دليل هو أنكم لم تقدموا سوى عدد قليل من الشهداء، ستة أو سبعة على الأكثر، وهذا لا يتناسب مع حجم مزاعمكم بأنكم الضلع الأساسي في هذه الثورة، ولا مع حجم مطالبكم التي تتراكم ولا يبدو لها حد، وهي ليست للناس، إنما لجماعتكم، بقرتكم المقدسة.
كانت الروحان ترفرفان بينهما، وهما تعلمان كل شيء. تحدبان على كتف الشاب المخلص الذي لا يقول إلا ما يؤمن به، وتعرفان أن روحه ستنضم بعد زمن ليس ببعيد إليهما. وتنظران بغيظ إلى الشيخ، الذى ستبقى روحه ساكنة في جسد يسعى دوماً إلى مزيد من القوة واللذة، وستذهب معه إلى القصر الكبير.
كاتب مصري
شـهـــــداء يـحـكــون مـا سـيـأتـي
أخبار متعلقة